بعد رحيل الشاعر المصري حلمي سالم في تموز (يوليو) 2013، صدر ديواناه الأخيران «حديقة الحيوانات»، و «معجزة التنفس» (الهيئة المصرية العامة للكتاب) وفيهما تتجلى تجربته التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً. يطرح سالم في «حديقة الحيوانات» صورة العالم الشعري الذي يقف بين منزلتين حدَّدهما الشاعر في قوله: «استرح يا حبيبي/ لا يرى جسدك سواك/ فكنْ على بعد محسوب/ لكي أتمَّ النغمة التي تدربتُ عليها في المعهد الشرقي/ لا أريد للجنين أن يذهب/ فربما كفَّ اللصوص عن سرقة الملاءات/ أو ربما كفَّت يداي عن رعشة الأصيل/ كلما مرَّ طيفٌ/ سأكون في المستشفى الخصوصي/ لفحص طبيعة الأحشاء/ واكتشاف انفجار الخلايا/ أنت سلامٌ في حياتي/ فلا تكن حرباً». تعلن الذات الشاعرة في المقطع الفائت صورة المرض الذي ظهر في حياتها، وكأنها ترجو من زائرها أن يكون لطيفاً لا ممزقاً لأجنحتها، و تعلن عن ماهية المرض المقلق الذي زلزل أجنحة نصوصها ومنحها إنذاراً متعجلاً بالرحيل. وكأن الشاعر حلمي سالم يمنحنا صورة بريئة فطرية للحيوانات المجازية التي تشبه نصوصه الشعرية في براءتها، وتمردها وجنوحها ورغبتها في المغامرة المجهولة التي لا تلقي بالاً للعواقب الوخيمة التي يمكن أن تحدثَ جرَّاء المخاطرة بالحياة، لأجل الشعر. وفي ديوانه «معجزة التنفس»، يرصد سالم تفاصيل الألم، فيقول في قصيدة عنوانها «السارقون»: «كان الطبيب بالنجمات الثلاث والنسر/ يحط مبضعاً على فأرٍ/ ليستأصل الداء/ بينما كان النقيب الشاب في شارع جانبي/ يصوب الرصاص نحو عيون فتى يصيح/ يا عدلُ/ وجُندُ النقيب يهتفون فيه/ أحسنت يا باشا/ وحينما كان الطبيب بالنجمات الثلاث والنسر/ يشفطُ الماء عن رئتيَّ/ كانت جموعٌ في قارعة الطريق/ تحمل نعوش أبنائها/ الذين سلَّموا السر الإلهي/ تحت البيادات والجنازير والرتل المدرع/ عندما صاحوا في الميادين: يا كرامة». اتكأ حلمي سالم في بنية نصه على المفارقة الدرامية المؤلمة التي صاغها من خلال معاناته مع المرض من ناحية ومعاناة فتيان دهستهم المدرعات. تكمن العلاقة بين هذين المشهدين في ولادة جديدة للذات الشاعرة من ناحية وولادة الآخر الذي يداوي وطناً ويجري لها العمليات الجراحية من ناحية أخرى، وكأن سالم نفسه تخلى عن وجعه الأحادي ليحدثنا عن أوجاع وطن بأكلمه فقد الكثير من أبنائه في صورة النعوش التي رحلت إلى عالمها الأخير، وكأنه كان يدرك رحيله العاجل في ظل رحيل هؤلاء الشباب، فقد تَجَلَّى ذلك أيضاً في نهاية نصه أثناء حديثه لرفيقة عمره إيمان بيضون: «ظفرنا نحن بالرحمة/ وتركنا الفتية للعذاب»، وكأنه في عز مرضه الذي لا يصدقه ولا يعترف به يدرك أنه رحمة إلهية ومنحة ربَّانية. صحيح أن سالم كان قد مرَّ بتجارب مرضية كثيرة من قبلُ وانتصر عليها، كما جاء في ديوانه «مدائح جلطة المخ»، فإنه في هذه الحالة الأخيرة يدرك أنه لن يفلت كما أفلت في المرات السابقة، فيستدعي صورة أمل دنقل في الغرفة رقم (8) في معهد الأورام الذي فيه مات، فيقول: «قال عازفٌ من قبل: تاج الحكيمات أبيض، فأخذته الحكيمات إلى حيث يعرف: هل السلطان لص أم نصف نبي؟ وحيث يشكر زرقاء اليمامة على نبوءتها، ويعتذر لها عن غباء الذين لم يسمعوا النصحَ/ أما أنا فأقول: عندما جاءت رقيَّة إلى العناية المركزة، ولمحتُها بين نوم وصحو، قلتُ يا شقيقة الشهر بَللي شفتي بالماء، فالشهيق رسالة الأنبياء والزفير معجزة الرب». لا يخلو استدعاء الآية القرآنية من دلالة في بداية النص لدى سالم، وهي تشي بأن الجسد الذي غرق في المرض، يحتاج لقدرة ربانية أن تعيد بناءه مرة أخرى، وهي تعزز قدرة الذات على البقاء وتمسكها بالحياة رغم آلامها وانهيار ملامحها الفطرية الصوفية التي تتحد بالمعشوق الأكبر وتلوذ برحمته الأبدية التي لا تموت. تبزغُ روح التصوف في نصوص حلمي سالم بزوغاً حميماً، حيث إنه يجسد في نصه ذاتاً أخرى، تطلب الخلود والفناء في روح المحبوب الأعظم، يقول: «قسم جراحة الصدر هادئٌ، لأن المصدورين لا يحبون أن يروا كلماتهم/ تخرج مصحوبة بالدم/ قلتُ لآمر المشاة: أريد أن أتملى حبيبي قبل معراجي». تبدو رغبة الذات في لقاء الحبيب قبل الدخول في غرفة العمليات، والمعراج الداخلي الذي تلَّبَسَ الذاتَ من حين إلى آخر، والتحامها بعرفانية نقائية، اتحد فيها العاشق بالمعشوق؛ للفناء الداخلي؛ فيقول الشاعر: «جاءني صوت حبيبي: أنا في يمنيك وشمالك كالشمس/ أنا أمامك ووراءك: كالشجرة/ أنا تحتك وفوقك/ أنا حولك كفرس النبي/ فادخلْ امتحانك الملون/ كي تخرجَ أخاً لياسمين». تبدو روح التصوف بيضاء في نصوص حلمي سالم على المستويين اللغوي والدلالي من خلال استرفاد أصوات أقطاب المتصوفة الكبار أمثال ابن عربي والحلاج والنفري والسهروردي المقتول وغيرهم، وذلك من خلال استدعائه مفرداتهم وأحوالهم الداخلية العرفانية التي تمنح كل شيء للحبيب. فقد سكنَتِ الذات روح المحبوب. وأصبحت خلاياه تسكن البدن المتوهج محيطة بها من كل جهة، لإنقاذها من الموت المحتوم، يقول: «قبَّلتُ أيديهم وتقدمتُ/ وفي صعود ربوة/ وهم يذرفون الدمعَ/ وقبل أن يختفوا همسَ لي الصبي/ الذي جعل مهاتفته لي جزءاً من دوائي: احترسْ يا رفيقي من الموج والنوَّاة والصبايا الغارقات والغريق/ حيث الفتى النحيل يصرخ: ستنجو يا شقيق الأب/ وحيث نعرف أننا عميانٌ/ ما لم نرَ باللسان مستقبل الحب/ وحيث يحضن الجندي طفلاً فوق دبابة». يُنتجُ النصُّ الشعري لدى سالم أساطيره وشخوصه الخاصة به التي تتكون منها المشاهد الشعرية المتضامة والمختلطة المسكونة بالحياة أيضاً ما بين صورة الدموع التي تسقط على خدود الأحبة، وصورة الموت التي تسكن الذات الشاعرة. وما بين الجندي الذي يحمل طفلاً فوق دبابة تعبيراً عن المحبة الباقية، أو المخاطرة المؤلمة التي تدمي العالم الأرضي، في ظني أن روح الذات الشاعرة في «معجزة التنفس» كانت تختبر قدرتها على الفراق والموت بعيداً من الأحبة.