في التاريخ الأميركي سوابق تدل الى تمتع النظام السياسي الأميركي بحيوية غير تقليدية وقدرة على تطبيق الدستور والقانون وفرض احترامهما بطرق ربما تفوق مثيلاتها في أعرق نظم الحكم ديموقراطية في العالم. من أشهر هذه السوابق رد فعل النظام السياسي الأميركي تجاه"فضيحة ووترغيت". ففي 27 حزيران يونيو 1972 ألقت المباحث الفيديرالية الأميركية القبض على خمسة أشخاص متلبسين بزرع أجهزة تنصت في مكاتب الحزب الديموقراطي بمبنى ووترغيت في واشنطن. وعندما تبين أن هذه العملية غير القانونية تمت بأوامر من الرئيس، آنذاك، ريتشارد نيكسون, انتفض الكونغرس الأميركي وأعلن عن تصميمه محاكمة الرئيس وتنحيته إن ثبت تورطه. لم ينتظر الرئيس قرار عزله الذي بات حتمياً بعد ثبوت الاتهامات الموجهة إليه، وخصوصاً ما يتعلق منها بالكذب على الشعب الأميركي، واضطر إلى تقديم استقالته في آب اغسطس 1974. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يجبر فيها رئيس أميركي على تقديم استقالته. لم يكن الرئيس المستقيل مجرد رئيس تقليدي، فهو الذي وضع حداً لحرب فيتنام, وطبع العلاقة مع الصين, وحقق اختراقا أميركياً في الشرق الأوسط عقب حرب تشرين الأول اكتوبر. ومع ذلك فإن أياً من هذه الإنجازات لم يشفع له, كما لم يشفع للرئيس المطلوب خلعه، حقيقة أن الشعب الأميركي نفسه كان جدد له الثقة حين أعاد انتخابه في تشرين الثاني نوفمبر 1972 لدورة ثانية كان يفترض أن تنتهي في آخر عام 1976. ولذلك فحين يتذكر الإنسان هذه الحقائق ويقارن ما فعله نيكسون عام 1972 بما يفعله الرئيس بوش الآن، فإنه لا بد أن يعجب من أمر هذا النظام، وأن يتساءل عما إذا كان بمقدوره أن ينتفض من جديد لتخليص الشعب الأميركي والعالم من شرور رجل أصبح خطراً على الجميع. هذا السؤال ليس وليد اللحظة، وكثيراً ما ألح علي من قبل. غير أنه في كل مرة هممت فيها بمناقشته، تملكني شعور بالخوف من احتمال طغيان العوامل الذاتية على العوامل الموضوعية، فالصورة التي كانت استقرت في ذهني عن جورج بوش الابن أنه رجل مختل التفكير، وربما مختل العقل على نحو فطري. وحين حل موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني نوفمبر من العام الماضي، تمنيت ألا يجدد الشعب الأميركي ثقته فيه. بل إنني ذهبت، في إحدى مقالاتي التي نشرت في هذه الصفحة إلى حد القول بالحرف الواحد:"إذا كان قرار الشعب الأميركي هو تجديد ثقته في الرئيس بوش فلن يكون لهذا القرار سوى معنى واحد وهو أن جهاز المناعة في النظام السياسي الأميركي قد تعطل، وأن الديموقراطية الأميركية بدأت تستسلم لفيروسات المحافظين الجدد الذين لن يتركوها قبل أن يحولوها إلى جثة هامدة. أما إذا كان قرار الشعب الأميركي هو تغيير رئيسه الحالي الذي اختبره على مدى السنوات الأربع السابقة، فقد يكون ذلك إيذانا بأفول عصر المحافظين الجدد، وربما بداية الانهيار الكامل والشامل لمشروعهم الإمبراطوري الديني الصبغة". وعلى رغم أن الشعب الأميركي خيب ظني به، فإن مراقبتي الدقيقة لسلوك بوش وتصرفاته طوال العام المنصرم أقنعتني من جديد، وبصرف النظر عن أي اعتبار آخر، أن الرئيس بوش ليس أهلا لقيادة الولاياتالمتحدة والعالم، وأن الصورة الذهنية التي كونتها عنه قبل فترة طويلة ليست صحيحة فقط لكنها تزداد بمرور الأيام وضوحا ودقة وثباتاً! ولذلك بتّ على قناعة تامة بأن بقاء هذا الرجل في موقعه ثلاث سنوات أخرى يشكل خطراً داهماً على البشرية، وأنه لم يعد هناك من حل لإنقاذ العالم من شرور هذا الرجل سوى أن يبادر الكونغرس الأميركي على الفور إلى اتخاذ إجراءات محاكمته تمهيدا لخلعه وتنحيته! حين استقر رأيي على أن تكون تنحية بوش هي موضوع هذا المقال، تصورت أنه يتعين علي أن أجتهد لطرح المسوغات القانونية التي يمكن أن تبرر للكونغرس الأميركي البدء في إجراءات محاكمته إذا ما توفرت له الإرادة اللازمة للقيام بهذا العمل النبيل. غير أنني اكتشفت، ولحسن الحظ، أنني لست وحدي الذي يفكر على هذا النحو. فهناك موقع كامل على شبكة المعلومات الدولية مخصص لهذا الموضوع Impeach Bush، عنوانه: www.votetoimpeach.org. وهناك لائحة تحتوي على 18 اتهاماً تتراوح بين الكذب على الشعب الأميركي وارتكاب جرائم ضد الإنسانية موجهة لبوش صاغها قانوني ضليع هو المدعي العام الأميركي الأسبق السيد رمزي كلارك. غير أن هذه اللائحة تبدو قديمة نسبيا لأنها لم تتضمن اتهامات أحدث بالشروع في قتل وسائل الإعلام الحر، خصوصا قناة"الجزيرة"، أو إشعال الفتن الدينية بالتجسس على المساجد، وبالتالي فهي ليست لائحة نهائية. وإذا كانت لائحة رمزي كلارك أعفتنا من البحث في المسوغات القانونية التي تبرر محاكمة بوش وعزله، إلا أن هناك جوانب وأبعاد أخرى ذات طبيعة سيكولوجية وذهنية تجعل من هذه المحاكمة أمراً ليس واجباً فقط وإنما عاجلاً أيضاً. فالوثيقة التي أشارت إليها"ديلي ميرور"تثبت بما لا يقبل مجالاً للشك أن نمط تفكير بوش يدخل في عداد أنماط التفكير غير السوية أو المرضية, وتثير الحاجة إلى ضرورة العودة والحفر من جديد في تاريخ الرجل وماضيه إذا ما أردنا أن نتعرف بشكل أعمق على شخصيته وما قد تمثله منظومته الفكرية والعقدية من خطورة على السلم والأمن الدوليين. ولحسن الحظ، فإن بعض الكتابات التي تناولت سيرة بوش وحياته الشخصية، مثل كتاب ستيفن مانسفيلد المعنون"عقيدة جورج دبليو بوش"، على سبيل المثال، وهو كتاب يصعب اعتباره منحازاً ضد الرجل أو متحاملاً عليه، من شأنها أن تساعدنا على تحسس طريقنا في هذا الاتجاه. فالصورة التي تطل علينا من ثنايا هذا الكتاب هي صورة التلميذ البليد الذي فضل في طفولته وشبابه حياة اللهو والعبث على الحياة الجادة. ففشل في التأهل للالتحاق بالمدارس الثانوية المتميزة في هيوستن، على رغم أنه ينتمي إلى أسرة ميسورة الحال، كما فشل أيضاً في الالتحاق بإحدى جامعات تكساس لدراسة القانون. صحيح أنه حصل على شهادة في دراسة المال والأعمال من جامعة هارفارد، لكنها ليست من بين الشهادات التي يعتد بها كثيراً أو تشهد لحاملها بقدرات عقلية متميزة، والأرجح أنه سعى إليها لاستكمال نوع من الوجاهة الاجتماعية، من جهة، ولمساعدته على الولوج إلى قطاع النفط في تكساس حيث الثراء الذي كان يسعى إليه، من جهة أخرى. وحتى في مجال تجارة النفط الذي اختاره، لم يكن نجاحه بارزاً. فشركة النفط الصغيرة التي أسسها ظلت في ذيل قائمة الشركات المنتجة للنفط في تكساس، واعتمد على سمعة ومكانة عائلته في إبرام بعض الصفقات. غير أن أهم ما يلفت النظر في هذه المرحلة أنه ظل سكيراً عربيداً متقلب المزاج ومضطرب العواطف، حتى بعد زواجه من زوجته الحالية لورا عام 1977، وأنه استمر على هذه الحال حتى العام 1984 الذي كان بمثابة نقطة تحول في حياته. ففي هذا العام تصادف حضور جورج دبليو بوش لمحاضرة كان يلقيها داعية مسيحي معروف هو القس أرثر بليسيت. ويحكى أن بوش أحس أثناء هذه المحاضرة بنداء يدعوه إلى لقاء وجها لوجه مع هذا الداعية، على رغم أنه لم يكن متأكدا من حقيقة إيمانه بالمسيحية، وهو اللقاء الذي قلب حياته رأساً على عقب. فشعر بعده برغبة عارمة في التوبة وبأنه"ولد من جديد". وهكذا أقلع بوش الابن نهائيا عن شرب الخمر، وراح يتردد على الكنيسة بانتظام، واستبدل أصدقاء السوء بآخرين من المؤمنين"الأصوليين المسيحيين". وإلى هنا تبدو الأمور طبيعية، فكثيراً ما يتعرض الأفراد إلى حوادث تمثل خطاً فارقاً تختلف حياتهم بعدها عما كان قبلها. غير أن ما حدث لبوش بعد ذلك لم يكن, في تقديري، عادياً أو طبيعياً. إذ تلقفه تيار سياسي متطرف يسعى لاستغلال الأصولية المسيحية الصاعدة وتوظيفها لخدمة مشروعه السياسي الخاص، وبدأ في إعداده للمهمة الكبرى التي تنتظره. لم يكن هناك في الواقع من هو أكثر مواءمة لخدمة مشروع سياسي أصولي من رجل محدود الذكاء والقدرات، ينتمي لعائلة عريقة، ويشغل والده منصب نائب الرئيس الأميركي الذي شهد اليمين المحافظ في عهده أكبر وأهم إنجازاته النوعية. وهكذا استقر رأي النخبة التي صاغت"مشروع القرن الأميركي"ليكون هو فرس رهانها. ومن المعروف أن التيار اليميني المتطرف المرتبط بالأصولية المسيحية، وبالتالي بالمشروع الصهيوني، لم يكن يثق في بوش الأب كثيراً، رغم عمق إيمانه الديني، خصوصاً منذ حادثة إنقاذ الغواصات الأميركية له بعد إسقاط اليابانيين لطائرته أثناء الحرب العالمية الثانية. فبوش الأب ظل يعتبر أن الدين شأن خاص، وأن فصل الدين عن الدولة يشكل حماية للدين نفسه كعقيدة شخصية, فضلاً عن أن قدراته العقلية والذهنية كانت أكبر من أن تقع فريسة سهلة لغواية بعض الأساطير الدينية. وتوحي السيرة الذاتية لبوش الابن بأن دافعاً دينياً غامضاً كان وراء العديد من القرارات التي أدخلته إلى حلبة السياسة أو شكلت منعطفاً فاصلاً في حياته السياسية، وهذا الدافع هو الذي جعله على قناعة تامة بأن العناية الإلهية اختارته لأداء رسالة عالمية كبرى عليه أن ينجزها. فبعد رسوب والده أمام كلينتون في انتخابات الرئاسة عام 1992 قرر، ومعه مساعده كارل روف, خوض معركة انتخابات الولاية في تكساس عام 1993، على رغم اعتراض كثيرين. وحين فاز بمنصب حاكم الولاية ترسخت قناعته بأن العناية الإلهية تناديه. ويحكى أيضاً أن فكرة ترشيح نفسه لرئاسة الولاياتالمتحدة عام 2000 نزلت عليه كوحي أثناء حضوره لصلاة في إحدى كنائس تكساس. فبينما كان جالساً بجوار أمه يستمع إلى قول القس وهو يسرد قصة موسى عليه السلام:"لقد تردد موسى في قبول دعوة الله لقيادة الناس، في وقت كان الناس فيه في أمس الحاجة والاشتياق إلى قيادة تمتلك رؤية وشجاعة أخلاقية", إذا بشعور يتملكه بأن الدعوة موجهة إليه، ثم إذا بأمه تلتفت إليه قائلة إن القس يناديك يا جورج. وما هي إلا دقائق حتى كان بوش يطلب القس قائلا له:"لقد سمعت الدعوة، إنني أعتقد أن الله يريدني أن أرشح نفسي للرئاسة"! وعندما نجح كان من الطبيعي أن يزداد اقتناعاً بأن الله اصطفاه لأداء رسالته. وفي سياق كهذا لم يكن غريباً أن تسيطر التفاسير الغيبية على عقله بسهولة بعد أحداث أيلول سبتمبر 2001 التي قرر اليمين المحافظ أن يستخدمها مبرراً لفرض مشروعه السياسي للهيمنة على العالم بقوة السلاح. وأظن أنه بات الآن واضحاً، وبعد سنوات من بدء تنفيذ"مشروع القرن الأميركي الجديد"، أن بوش ليس سوى مجرد واجهة ضعيفة جدا ومحدودة القدرات والذكاء لنخبة يمينية شديدة التطرف والدهاء، وأنه أصبح أسيرا لها. وفي اعتقادي أنه إن تركت هذه النخبة العصابة لحالها واستمرت تقود الولاياتالمتحدة لثلاث سنوات أخرى فستقود العالم إلى كارثة أكبر. هل كان في وسع أحد أن يصدق أن رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية يمكن أن يفكر، ولو على سبيل المزاح، في ضرب محطة تليفزيونية في دولة صديقة بالطائرات لمجرد أنه يعتبرها مناهضة لسياساته، وهل كان في وسع أحد أن يصدق أن تشن حملات تفتيش في الولاياتالمتحدة ذاتها، أكبر معقل للحرية في العالم, على مساجد المسلمين بحثا عن أسلحة دمار شامل؟ الواقع أن هذا أصبح ممكناً في عهد جورج دبليو بوش، وهو لذلك أخطر بكثير من بن لادن ويلعب نفس لعبته، وبالتالي فإن محاكمته لا تصح فقط وإنما تصبح قبل ذلك وبعده واجبة. كاتب مصري.