في محاضرة شهيرة له تحدث الراحل ويليام غولدينغ عن أهمية العودة الى الكلاسيكيات، فهي في رأيه مصدر الثوابت والمنطلق الأصح للتمرّد وأحداث التغييرات الجذرية، ما عداها فقاقيع كالازياء والصرعات العابرة. وفي نطاق عودات كثيرة سابقة يلفتنا حالياً قيام مجموعة من الكتّاب الأميركيين بالتصدي للأساطير اليونانية في حلّة معاصرة. على رأس هؤلاء، الكندية مارغريت أتوود والاميركية جانيت ونترسون، لكن هناك أيضاً نايجل سبايفي أغاني البرونز وبيتاني هيوز هيلين طروادة. كما يتوقع الناشرون مزيداً من الأعمال الروائية والشعرية والبحوث والقصص تدور كلها في المحور نفسه. تعود بنا هذه الظاهرة الى العهد الفيكتوري وكتاب المؤلف الساخر صموئيل بتلر"دروب الجسد"الذي كان بداية التشكيك في صدقية بنيلوبي، الزوجة العفيفة المنتظرة عودة عوليس طوال عشرين سنة."عشرون سنة من دون وصال؟"تساءل بتلر هازئاً،"وماذا عن مجموعة الفرسان الغواة الذين كانوا يرومون القصر ويغدقون عليها عروض الزواج؟". وتصيب ريبة بتلر نص هوميروس في الصميم"فلماذا كانت بنيلوبي تتبادل الرسائل مع أولئك الفرسان لو أنها كانت بالفعل تنوي التخلص منهم؟"وماذا عن حجة الحياكة والتطريز وقولها انها لن تقبل بالزواج إلا متى أنهت الشال المخصص لوالد زوجها، ثم تعمد في الليل الى تفكيك ما شغلته في النهار، لئلا ينتهي الشال ومعه حجة الانتظار؟ بالنسبة الى بتلر لم يكن ذلك سوى لعبة لتمديد فترة الاغواء. والواقع انه لم يكن أول من شكك في صدقية الحكاية. فالإغريق أنفسهم والرومان من بعدهم أعادوا النظر فيها، وذهب بعضهم الى القول ان بنيلوبي قفزت الى السرير مع أحد غواتها ولما عاد عوليس طردها من القصر، آخرون قالوا انها قفزت الى السرير مع مئة فارس! يكمل الكتّاب المعاصرون سبرهم التخييلي للأساطير الاغريقية. وفي روايتها"البينيلوبيادا"تروي مارغريت أتوود حكاية الأوديسة عن لسان بينيلوبي، وتركز على قتل 12 عبدة/ وصيفة قيل انهن عاشرن غواة سيدتهن. ترى أتوود فيهن حليفات لبينيلوبي في تلاعبها بمشاعر اولئك الرجال، ترى أيضاً ان التخلص السريع منهن إثر عودة عوليس إشارة الى الإهمال الظالم لمأساتهن:"ما كان لنا صوت/ ما كانت لنا أسماء/ ما كان لنا خيار..."يصيح كورس صوتهن في النهاية. وتتحيز أتوود لبينيلوبي متسللة الى حياتها اليومية في جزيرة إيثاكا، ثم تغوص في إشكالية"الحقائق"وراء قصص عوليس إبان غيابه في الحروب الطروادية، وهو معروف بكذبه ومغامراته النسائية وتضخيمه الأمور. ما تفعله أتوود في هذا الكتاب محاكاة في الشكل للأسطورة، فالراوية بينيلوبي صوت واحد أما الوصيفات الاثني عشر فيتحدثن بصوت جمعي وأسلوب شعري. وتقول أتوود انها قرأت عن تلك الوصيفات المستعبدات حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها:"وما فتئن يضايقنني. ثمة شيء غريب عن شنقهن، وكلهن جميلات وفي مقتبل العمر، واللافت انهن شنقن بحبل واحد". في السادس والعشرين من تشرين الأول اكتوبر الفائت شهدت لندن تجربة مسرحية فريدة من نوعها إذ جرى تقديم قراءة ممسرحة لرواية أتوود في كنيسة سانت جيمس، بيكاديللي، قامت فيها أتوود نفسها بدور بينيلوبي. تبعتها جلسة اسئلة وأجوبة مع الجمهور. إلا ان بيتاني هيوز التي تطرقت لأسطورة هيلين طروادة، وهي مبنية على شخصية حقيقية من العهد البرونزي، لم تحظ بمثل ما حظيت به أتوود من اهتمام خارج الولاياتالمتحدة. مع ذلك اعتبر النقاد عملها مرجعياً، فهي جمعت باقة كبيرة من الأجوبة عن أسئلة بقيت معلقة طوال قرون، فهيلين، بعكس بينيلوبي، لم تكن ضحية بقدر ما كانت سبباً لآلام كثيرة في مقدمها إقناع باريس باختطافها الى طروادة، والواقع ان شاعراً اغريقياً يدعى ستيسيخوروس قال ان"طيف"هيلين اختطف الى طروادة اما هي فبقيت طوال الحرب هادئة ساكنة في مصر، إلا ان احداً لم لم يشاركه هذه الرؤية، خصوصاً بيتاني هيوز التي لم تكن رحيمة في حق هيلين، بل أكدت، ولو في شكل غير مباشر صورة المرأة النزقة الميالة الى المجون والمغامرة والقادرة على تدمير حياة حبيبها بثمن خلاصها الشخصي. جانيت ونترسون في كتابها"ثقل"عالجت اسطورة أطلس وهرقل في طرافة ونزعة جذابة الى تطبيق خرافات الماضي على وقائع حاضر لا يقل خرافة: أطلس القاهر الظالم حُكم عليه أن يحمل العالم على كتفيه، لكن هرقل البطل يريده أيضاً لقطف تفاحات الذهب من حدائق هيسبيريدس، وكي يحرره ريثما يحقق مهمته يقرر أن يحمل العالم عنه. السؤال التالي: هل سيعود أطلس أم سيبقى هرقل حاملاً العالم على كتفيه الى الأبد؟ في الأساطير الاغريقية شخصية هرقل تتأرجح بين المخلّص النبيل للبشرية وبين السكير الشقي، وتشق ونترسون طريقها عبر هذه التناقضات في معالجة الطبيعة الرفاقية في العالم الذكوري والظروف الآيلة الى صناعة الأبطال والغدر المتربص بهم. بعض المقاطع بالغ الفكاهة خصوصاً التفاصيل اليومية لحياة"البطل"إذ يأخذ فطور زوجته الى سريرها، ثم يجمع جنوده ويبيد مدينة برمتها ثم يذبح كل أعدائه، مما يقيم مقارنة حارقة مع قادة الزمن الراهن وكيف يعكسون صورة منزلية وعائلية مناقضة تماماً لما يفعلونه بالعالم خارج اعتاب بيوتهم. وفي قصة ونترسون لا يرتاح هرقل من نيره حتى العام 1957 عندما تصل الكلبة الروسية لايكا الى عقر دار القمر. أخيراً"أغاني البرونز"لنايجل سبايفي، وهو كاتب مرموق واستاذ في الكلاسيكيات العزيزة على قلب غولدينغ، إلا ان"أغانيه..."القصصية المستوحاة من أساطير الاغريق تمزج في صورة قصدية الخطاب الاكاديمي بلغة واحداث اليوميات المعاصرة من دون أن تفلح في صهرهما. ويعود ذلك الى طبيعة الأساطير نفسها بقدر ما يتعلق بتصدي سبايفي لطاحونة هواء محطمة، فإلى جانب الحكاية البلاغية في الموسوعات وقصص الجدات في أماسي الشتاء، لا وجود لنص"نهائي"محسوم يجمع تلك الأساطير والحل الوحيد حيال استلهامها هو إعادة صوغها في حرية مطلقة، لأنها كما قال غولدينغ، منطلق وليست إطاراً أو مدرسة. وتتوقع دار"كانونغيت"التي نظمت هذه السلسلة ان يفوق عدد المشاركين فيها الثلاثين كاتباً وكاتبة قبل نهاية 2006 معظمهم من أميركا وبريطانيا.