انتعش بناء المدارس الدينية في حلب زمن الزنكيين والأيوبيين، وأولى العثمانيون اهتماماً خاصاً بالتدريس الديني الذي اعتبر نواة التعليم ومدخلاً الى بقية العلوم قبل ان تسلب المدارس العصرية دور نظيرتها الدينية في اكتساب العلم والمعارف مع إطلالة القرن التاسع عشر. ولا تزال مجموعة من المدارس الدينية التاريخية تمارس دورها المعهود تحت اسم المدارس الشرعية التي تركز على تدريس علوم الشرع من فقه وسيرة وتفسير، إضافة الى الأدب والتاريخ واللغة العربية، وهي التي عدت بمثابة كليات دينية وعلمية تستقطب الطلاب من مختلف الدول العربية والإسلامية. وتضم حلب 44 مدرسة دينية تشكل محطة هامة ومقصداً متميزاً للسياح العرب والأجانب، وهي تندرج تحت تصنيف مديرية الآثار والمتاحف باعتبارها أوابد أثرية تتعهد وزارة الثقافة بالحفاظ عليها بعيداً عن دورها التاريخي الذي أوكلت مهامه الى مجمعات تدريس علوم الشرع والمدارس الشرعية المحدثة ومعاهد تحفيظ القرآن الكريم. ريادة تاريخية يرجع بناء المدرسة المقدمية الى عام 1136 للميلاد، وفق ما تشير إليه المصادر التاريخية، لتعتبر بذلك ثاني أقدم مدرسة دينية في سورية، وربما في الوطن العربي، بعد مدرسة جامع مبرك الناقة في بصرى الشام جنوب البلاد. ويرجع فضل تشييدها للزنكيين كما يبدو من أحد الأبواب الذي يحمل كتابة نسخية تؤرخ للعام 1168 وتشير الى ان المدرسة من وقف الملك محمود بن زنكي. تقع المقدمية في زقاق خان التتن الى الغرب من جامع البهرمية الذي يعود الى فترة لاحقة داخل أسوار المدينة القديمة، وتعرف ايضاً باسم مدرسة خان التتن نسبة الى اسم الخان وتضم قبلية وحجرات كانت تعقد فيها حلقات الدرس. وعلى رغم انشغال الزنكيين بالفتوحات وخطر الحروب المحدقة بدولتهم، التفتوا الى تشييد المدارس الدينية تيمناً بطلب العلم وثوابه وتشجيع الإقبال على دوره. ويشهد لنور الدين الزنكي 1146 - 1173 حرصه على بناء المدارس في معظم المدن العربية ومنها المدرسة الحلوية في حلب في عهد والي المدينة ابن الخشاب. ويعتقد بعض المؤرخين ان مقر المدرسة كان عبارة عن كاتدرائية تعود الى القرن الخامس الميلادي وتدعى الكاتدرائية العظمى، إلا ان الكتابات الموجودة حالياً تدل فقط على زمن الترميم على يد محمد الرابع السلطان العثماني سنة 1616. وحدثت فورة عمرانية في بناء المدارس الدينية زمن الأيوبيين. وآثر بعض سلاطينهم تشييد المدارس لتضم رفاتهم طمعاً في الأجر وتخليداً لأسمائهم، ومثال ذلك المدرسة السلطانية التي تشتهر بمحرابها ومنارتها وتقع قبالة المدخل الرئيسي لقلعة حلب الأثرية وتحوي مدفن والي حلب السلطان غازي. وأقيم بعض الأضرحة الخاصة بالعلماء والفقهاء على شكل مدارس مثل تلك التي تضم ضريح الهروي في حي الصالحين والطرنطائية في حي باب النيرب، بينما وجد داخل المدرسة الشاذبختية ضريح الشيخ معروف بن جمر. ومن مدارس الفترة الأيوبية مدرسة الأتابكية قرب باب الحديد والشرفية في سويقة حاتم وتحمل توقيع ابن العجمي منتصف القرن الثالث عشر. ومع ان ما يميز فن العمارة الأيوبية هو ميلها الى البساطة والتقشف إذ تخلو مبانيها من الزخرفة والنقش، إلا ان المدرسة الظاهرية البرانية بجانب باب المقام تشذ عن نمط العمارة السائد في تلك الفترة بزخارف ومقرنصات مدخلها وبركتها المفصصة وسط الباحة المحاطة بثلاثة أجنحة. وكذلك الحال مع المدرسة الكاملية المجاورة لها والغنية بزخارفها، وهي تتألف من بناء مستطيل الشكل بباحة مربعة وبركة مثمنة الأضلاع. ومن أروع المدارس في العالم الإسلامي مدرسة الفردوس التي بنتها زوج الملك الظاهر ضيفة خاتون، ورصفت باحتها التي تتوسطها بركة مثمنة بالبلاط الأسود والأصفر في شكل متباين، وعلت الأعمدة الطويلة الأقواس الكبيرة والمحملة بالتيجان الصفراء المقرنصة، فيما عدّ محرابها من عجائب الدنيا نظراً الى دقة صنعه وجمال زخرفه، وانزوت غرف نوم الطلاب في جانب المدرسة مع غرف الراحة والاستجمام المعزولة عن صفوف العلم وأماكن العبادة على شكل مجمع متكامل قلً نظيره في تصاميم المدارس الدينية. والطريف ان بناء المدرسة تعرض للتنقيب والنهب مرات عدة على يد لصوص اللقى الأثرية والطامحين الى الثروة من خلال الكنوز الذهبية، دليلهم الى ذلك آية منقوشة على مدخل المدرسة فسرها هؤلاء على أنها برهان يشير الى موضع كنز داخل البناء. وسار العثمانيون على نهج حكام الزنكيين والأيوبيين في إقامة المدارس الدينية، وها هي المدرسة الخسروفية زمن خسرو باشا والي المدينة ترفع أعمدتها مع بداية حكم السلاطين العثمانيين عام 1537، ودعيت المدرسة ب"الأزهر الثاني"أو"أزهر الشهباء"بسبب مكانتها العلمية بين نظيراتها ولكثرة العلماء الذين تخرجوا من صفوفها، وفيها جامع وتكية ومطبخ. وأشار باحثون الى ان مصممها المعماري سنان أراد ان يتحدى القلعة الرابضة أمامها فرفع منارتها وقبتها الى علو 26 متراً ونقشت بداخل قبتها أسماء الله الحسنى وزيّنت نوافذها بالقيشاني. ولا تزال الى الآن تدرس العلوم الشرعية والاجتماعية باسم الثانوية الشرعية. وهناك أيضاً المدرسة العثمانية التي أنشأها عثمان باشا سنة 1747 والمدرسة الأحمدية عام 1724.