تخوض دبي سباقاً مع الزمن لكي تصبح مدينة عالمية، وهي على يقين أن أمامها فرصة تاريخية نادرة، تتمثل في وفرة عارمة من السيولة بفضل العائدات القياسية للنفط، واستمرار عودة الأموال العربية المهاجرة، واستثمارات الطبقات الميسورة في وسط وجنوب آسيا وإجماع محلي وإقليمي وعالمي على ضرورة وجود نموذج ناجح يحتذى به في المنطقة. وباتت دبي"ظاهرة"مثيرة للجدل بين المعجبين، عرباً وأجانب على السواء، بجرأة وإقدام القائمين عليها، والمنتقدين لما يرونه من سرعة جامحة في إطلاق مشاريع مغرقة في الطموح، حولت مدينة كانت وديعة إلى ورشة عمل ضخمة تكتظ بالباحثين عن فرص والحالمين وسط ناطحات سحاب تنبت سريعاً في الصحراء، وغلاء بدأ يستشري وتضخم متصاعد وتراجع في مستوى الخدمات. لكنهم يتفقون على أمر واحد، وهو أن فرصاً كهذه لا تتكرر كل عام، وإلا لما أقدم بليونير مثل دونالد ترامب أو جورجيو أرماني على محاولة قضم جزء من الكعكة العقارية من خلال المشاركة في مشاريع فنادق ومنتجعات في الإمارة، تشاركهم مئات من الشركات العالمية العملاقة، مثل آي بي إم وأوراكل ودايملر كرايزلر وسيتي بنك، وستاندر أند تشارترد، ووكالة رويترز العالمية التي نقلت مقارها الإقليمية إلى دبي. وعلى رغم أن دبي بغلاء الأسعار فيها، وسياسة رسمية غير معلنة تركز على استقطاب شريحة متميزة من كبار المستثمرين ورجال الأعمال والتجار، ما زالت الجاذب الأقوى لجيوش من العمال وصغار الموظفين الأجانب، معظمهم من دول آسيوية، فتراهم يتكدسون في غرف ضيقة، يتقاسمون لقمة العيش في انتظار صامت وصبور لفرصة باتت نادرة في بلادهم. لحظة تاريخية لا أحد يجرؤ على تقدير عدد سكان دبي الذي تضاعف مرات عدة. فالرقم الرسمي قبل أكثر من خمس سنوات والذي لم يتم تحديثه حتى الآن يتحدث عن أقل من مليون نسمة، لكنه يدور الآن بحسب تقديرات مستقلة حول أربعة ملايين ونيف. ويقول المفكر والمحلل عبدالخالق عبدالله الذي يؤلف كتاباً عن دبي، أنه على رغم التضخم والاختناقات المرورية وغلاء الأسعار وإيقاعها الذي يسير"بسرعة مخيفة تتجاوز الخط الأحمر"، فان المدينة تسجل لحظة تاريخية قلما شهدتها مدينة عصرية في مثل هذا الزمن القياسي. ويضيف قائلاً:"هي لحظة تقاس بحدث ضخم ومهم، وهو إصرار دبي على الذهاب إلى ما بعد النفط، وهي محاولة فشلت فيها دول أخرى كثيرة. هذا هو المحك وأساس الحكم على دبي، فلو نجحت هذه التجربة سيكون انطلاق المنطقة من دبي"، مشيراً إلى أن الإمارة تسعى إلى الانتقال من المحلية إلى العالمية، وهي التي باتت روابطها بالخارج اكبر من ارتباطها بالإقليمي والمحلي. لكنها في رأي المسؤولين تسعى حثيثاً لاستقطاب العقول والأموال العربية المهاجرة عبر حزمة من الإغراءات، بعضها معلن وغيرها غير معلن، على اعتبار أن الانتماء العربي يمثل بالنسبة إليها صمام الأمان والعمق الاستراتيجي في المستقبل. الغلاء والتضخم وتراجع مستوى الخدمات والاختناقات المرورية التي باتت المشكلة الأكبر في شوارع دبي المكتظة بأكثر من نصف مليون سيارة، هي كلها في رأي المسؤولين"شر لا بد منه"بسبب الإيقاع السريع، ولكنها"موقتة"وستزول عندما يكتمل بناء المرافق الحيوية، مثل المترو والطرق الالتفافية وشبكة الجسور، إضافة إلى عشرات الآلاف من الوحدات السكنية لتلبية الطلب الشديد الذي رفع أسعار الإيجارات إلى مستويات قياسية ومزعجة. مرافق جديدة ويؤكد الرئيس التنفيذي لمؤسسة موانئ وجمارك دبي ورئيس شركة"نخيل"العقارية سلطان بن سليم،"أن كل شيء سيتحسن"عند اكتمال هذه المرافق، مشيراً إلى أن هذا كان هو الثمن الذي كان على دبي وسكانها تسديده مقابل الكم الهائل من الفرص التي أتاحتها المشاريع الضخمة بإشراف الحكومة وتشجيع منها. ولا يتحدث بن سليم فقط على المشاريع العقارية والخدمات التي يفضل الكثيرون الإشارة إليها على أنها المحرك الرئيس لاقتصاد دبي بعد موجة الانتعاش التي أغنت كل من شارك فيها، لكنه يركز على ما سماه أوعية استثمارية مضمونة تستوعب رؤوس الأموال العربية للحيلولة دون ترحيلها إلى الخارج كما كان الحال في السابق. ويقول:"نلاحظ أن رؤوس الأموال العربية تتكاثر هذه الأيام، وإذا كان البعض يتحدث عن عودة الأموال العربية المهاجرة، فأنا أتكلم عن كيفية الحفاظ على ما هو موجود. هناك أموال تخلق في المنطقة يومياً، نود الحفاظ عليها، وإذا حافظنا على هذه الأموال في دبي فان هذا سينعكس على الدول العربية الأخرى وسيخلق فرص عمل". وفي إشارة إلى الفائض غير المسبوق من العائدات النفطية وانخفاض تكاليف الاقتراض للبناء، يتحدث بن سليم بقناعة"أن هذه هي المرة الأولى التي يمكن للدول العربية أن تطور نفسها من دون الاعتماد على المساعدات والقروض والدعم من الخارج، هذا إضافة إلى أن القاعدة الاقتصادية جيدة. إن هذه المرحلة هي عصر ذهبي للاستثمار". التحول الى مدينة عالمية هذا العصر الذهبي الذي يتحدث عنه بن سليم، جعل دبي بحنكة وذكاء تتحول إلى مركز لجميع القطاعات تقريباً، التجارية والمالية والسياحية واللوجستية والإعلامية والإلكترونية، فأطلقت مركز دبي المالي العالمي ومدينة دبي للإنترنت ومدينة الاعلام وواحة السيليكون، التي تهدف إلى استقطاب الشركات العالمية الكبيرة التي تصنع رقائق الكومبيوتر والمعدات التقنية الحديثة. واحتضنت الإمارة جميع أنواع البورصات لتغطي الفجوة الزمنية بين الشرق والغرب، من بورصة دبي المالية إلى بورصة الماس وبورصة الذهب والمعادن، وهي الآن تجهز لإطلاق بورصة دبي للطاقة بالتعاون مع"نايمكس". ويشير المسؤولون باعتزاز إلى أن تحويل دبي إلى مدينة عالمية هي بمثابة"رؤية"لولي عهدها ووزير دفاع الإمارات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي ورث عن أبيه الراحل الشيخ راشد الحس التجاري المرهف والجرأة في الإقدام على مشاريع قد تبدو للوهلة الأولى مستحيلة أو مكلفة ولا تنفع المنطقة في شيء. وهناك الكثير من الروايات عن مستثمرين ومديرين تنفيذيين كلها تؤكد هذه الديناميكية التي يتعامل بها الشيخ محمد مع المشاريع الجديدة. ويتذكر مسؤول كبير في طيران الإمارات، وهي من شركات الطيران العربية القليلة التي تحقق أرباحاً، كيف وافق ولي العهد على إقامة مطار جديد فور أن سمع كيف أن المطار القائم أضحى لا يلبي احتياجات دبي. وقال:"هذه السرعة في اتخاذ القرارات هي التي تحتاجها أي دولة نامية. هي بالنسبة إلينا السبب الرئيسي وراء التوسع الكبير الذي نشهده وأعداد السياح الذين نجلبهم إلى الإمارات، والذي يفوق نظيره في أي دولة عربية". هذه ديناميكية لا تراها حتى في بلدان مثل بريطانيا التي لم تستطع حتى الآن إضافة مبنى خامس للأربعة الموجودة في مطار هيثرو في لندن منذ سنوات على رغم الطلب وزحمة المطار". ولا يخلو الحديث عن دبي من جدل بين مؤيد ومعارض لهذا النمو الذي يخطف أنفاس الزائر والمقيم في آن واحد. لكن بحسب ما يقوله عبدالله"نحن لسنا أمام مدينة عادية بل أمام ظاهرة، ولو كانت مدينة عادية لما استحقت هذا الجدل. وكل ظاهرة لديها أبعادها المشرقة والمظلمة. وتجد من يمدحها ومن يذمها. دبي ستظل مثيرة للجدل طالما ارتفعت إلى مستوى مختلف، فهي ظاهرة اجتماعية وسكانية واقتصادية". لذلك فهو يعتقد"بأن كل ما يقال عن دبي إيجاباً فهو صحيح وكل ما يقال عنها سلباً صحيح"، ولكنه يؤكد انه"يجب أن نرتقي في حديثنا حين دراستنا لهذه الظاهرة، بالابتعاد عن إصدار الأحكام غير الواعية، بل يجب أن نفهم ونستوعب تجربة دبي كظاهرة". وعلى رغم تفاؤل مفكرين إماراتيين مثل عبدالله، فانه قلق من سرعة دبي المخيفة في القطيعة مع الماضي والمحلي. ويقول:"التخوف هو انه مقابل كل صعود سريع هبوط سريع. جميع الناس في عجلة من أمرهم، الدوائر الحكومية والقطاع الخاص والناس العاديين، الجميع يريد أن يواكب هذه السرعة، وفي ضوء هذه السرعة نجد أن جودة الخدمات خفضت، تصاحبها زحمة في الشوارع وغلاء وتضخم". ويضيف قائلاً:"نرى مبادرة وراء مبادرة وناطحات سحاب تظهر بين عشية وضحاها، كل هذا يزرع الحيرة في وجدان كل من يشاهدها. وكأن المدينة داخلة في سباق مع الزمن". هوية دبي لكن القلق الأكبر في رأي شريحة كبيرة من المثقفين هو ذوبان العنصر المحلي وسط جيوش الأجانب الذين يمثلون أكثر من 85 في المئة من عدد السكان ويسيطر على أكثر من 98 في المئة من القطاع الخاص. ويلاحظ بعض المحللين أن الحكومة بدأت في الآونة الأخيرة تمنح الجنسية للكثيرين من العرب الذين خدموا الإمارات لسنوات في مواقع مهمة، في محاولة لإبقاء سيطرة العنصر المواطن على الخدمات الحيوية. لكن البعض ينصح الحكومة بتوسيع نطاق منح الجنسية لشرائح أوسع لتشمل كبار التجار والموظفين لتعديل الكفة قليلاً، وهو ما يمكن أن تتجه إليه السلطات العليا في نهاية الأمر، لا سيما ان هناك إحساساً عميقاً لدى القيادات الشابة بضرورة حل هذه المعضلة. ويقول عبدالله:"في ما يتعلق بالهوية، فإن لا خوف على المواطنين ما دام القرار السياسي في يدهم، صحيح انهم أقلية ولكنهم لم يفقدوا سيطرتهم على الأمور". وعلى رغم أن العولمة"شر لا بد منه"في رأي بن سليم، فان دبي ما زالت تحافظ على هويتها. ويقول:"بعض الناس يحاولون تشبيه دبيبهونغ كونغ، ولكن الشيخ محمد يصر على القول نحن لسنا هونغ كونغ. نحن دبي، لنا شخصيتنا". ويضيف:"ما زلنا نحافظ على الشخصية العربية، وان أساس نجاح دبي هو عودتنا إلى الماضي وتركيزنا عليه، وماضينا هو التجارة التي طورنا بنيتها الأساسية وانتقلنا في تجارتنا إلى الخارج، وقمنا بتطوير الموانئ والاستثمار في أماكن مختلفة حول العالم. على العكس نحن نقلنا صورتنا العربية إلى الخارج".