ما إن تسأل المخرج السوري نبيل المالح عن أحواله حتى يجيبك بالقول إنه أمضى تسعة شهور مستغرقاً في حكاية أسمهان. قرأ كتباً عنها وكتب ومزق وأعاد الكتابة ثانية وثالثة وبنى مسلسلاً من ثلاثين حلقة. ويرى المالح أن حياة المطربة أسمهان قد يستغرقها مسلسل من مئة حلقة أو مئتين، ولجلاء بعض"الأقاويل"التي أحاطت بالعمل كان لنا معه هذا الحوار: فجأة أعلنت ثلاث جهات... سورية ومصرية وفرنسية أنها تنوي إنتاج مسلسل عن أسمهان... ما هو تفسيرك للموضوع؟ - هذا أمر يشبه فجائيات الإعلام العربي نفسه، فبعضه نصف حقيقة، وبعض ربعه غير حقيقي، وثلاثة أرباعه مختلق. وما أعرفه أن هناك نصاً مكتوباً، وهناك ورثة، وأن الجهة التي أتعامل معها اشترت كل تلك الحقوق. وأرى أن العمل الذي يبدو هو الأكثر شرعية من الناحية القانونية والأخلاقية هو العمل الذي أعمل عليه أنا، وهذا لا ينتقص من محاولات الآخرين. ولكن يجب أن نفهم في شكل واضح وصريح: أولاً وبالنسبة الى ما تردد من أن هناك جهة فرنسية تريد أن تحقق فيلماً عن أسمهان، فهذا مشروع قديم يقيم وزناً للجانب التجاري بسبب قصتها المثيرة. وهو مشروع لا يعنى بالبعد الزماني والمكاني في حياة أسمهان، وبالتالي لا أتوقع أن يتم التعامل معها بصفتها أكثر من غانية على أبعد تقدير، وهذا يسري بطريقة أخرى على من قالوا في مصر أنهم يريدون إنتاج عمل عن حياتها، إذ يبدو لي على رغم أن الكثير من الأحداث التي وقعت في حياة أسمهان جرت في مصر، ولكنني أرى الموضوع برمته، وكأنني أريد أن أصنع فيلماً عن نجيب محفوظ أو إحسان عبدالقدوس أو تحية كاريوكا. وأنا كمخرج سوري لا أمتلك المفردات التي قد يمتلكها مخرج مصري بالتعامل مع موضوع بيئي وجزء من ثقافة مصر. وأنا في قناعتي أرى أنه بقدر ما كان لمصر فضل في ارتقاء أسمهان إلى ما بلغته، فإنني مؤمن أنهم في مصر غير قادرين على ملامسة هذه الشخصية بالطريقة التي أفهم بها إنسانة ترعرعت في بيئة محددة وتنتمي الى ثقافة واضحة المعالم سواء على مستوى الشارع أم العشيرة أم الذوق، وبالتالي أعتقد أنها محض منافسات تجارية، وهذا شيء محزن كأن يتم التداول مع المواضيع الكبرى بعقليات الصغار، فالقصة ليست نوعيات مطاعم، فنحن هنا نتحدث عن شخصية درامية حقيقية أثرت وتأثرت بعالم متحول وحافل بالكثير من المفردات التي صنعت تاريخ الشرق الأوسط كما نراه اليوم. العملية بالنسبة إلي ليست لعبة تجارية وإنما حالة إبداعية ترقى إلى تقديم صورة عن حقبة يجهلها الكثيرون.! في ما يتعلق بالجانب المصري أحس بطعم المرارة في حديثك! - لا مانع إطلاقاً عندما نتحدث عن أي شيء أن يقاربه الكثيرون، ولكن لماذا هذه"المكاسرة"في هذا الوقت بالذات. فإذا كان الإقلاع بالتفكير في أسمهان غير اخلاقي إلى حدٍ ما، فكيف نتصور ومن مبدأ المنافسة التجارية البحتة، وليس الاهتمام بفحوى الموضوع، إنجاز هذا العمل... وفي النهاية الدنيا تتسع للجميع كما يقال. ماذا بالنسبة الى ورثة أسمهان... ألا تخشون من مشكلات على هذا الصعيد، كما حصل مثلاً مع ورثة نزار قباني؟ - هذه أمور أنجزها المنتج فراس إبراهيم وأنا لا أتدخل فيها، ولا تعنيني. ما يعنيني هو أن أقول فقط إننا نتحدث عن وجه مضيء ومشرق لأسمهان والعائلة العريقة التي تنتمي إليها، ولا أستطيع أن أفعل سوى ذلك. أسمهان شخصية إشكالية... وأنت تتحدث عن الوجه المضيء والمشرق فقط.. أما من جانب معتم أيضاً؟ - ميزة أسمهان أنها حلم أي عمل درامي، ففيها تجتمع كل النساء، فهي الأميرة والفقيرة والمشردة والعاشقة والمعشوقة والضعيفة والقوية. وهي بحق نموذج استثنائي من الناحية الدرامية، وهي بالنسبة إلي شخصياً أيقونة من الناحية التاريخية، وهي رمز للتجديد والابتكار ومسابقة العصر من الناحية الإبداعية، وهذا يندر أن نجده في شخصية درامية. أسمهان تحمل كل سمات سحرها معها من دون أن يسبغها أحدٌ عليها. إنها مالكة حقاً لهذا"الكريستال"المتعدد الوجوه الذي يكون شخصيتها وزمانها ومكانها، وبالتالي أرى ان القضية برمتها هي قضية إعادة الاعتبار إلى شخصية من شخصيات عدة ظلمها الزمن وظلمتها الأحكام المسبقة، ونحن نعلم كم تم تهميش وإلغاء شخصيات لعبت دوراً في تاريخنا، والمؤسف أنها لم تكن تغني أو ترقص أو تكتب ولكنها صنعت تاريخاً، وأرى اليوم من موقعي كمخرج أن أسوأ ما فينا أحياناً هو أن نفقد الذاكرة، أو يفقدنا أحدٌ ما إياها. إذاً... لن يكون أي"فلترة"لشيء من تاريخها؟ - أنا أتعامل مع عمل درامي له درجات تطوره وتصاعده ونقاط الارتكاز فيه، وأنا حاولت من هذه الزاوية وقدر الإمكان وضمن مختلف المصادر أن أكون أميناً لها. ولكننا نعلم أنه من الناحية الفنية والإبداعية على الأقل من الممكن أن نقدم أربعاً وعشرين ساعة في ثلاثين حلقة تلفزيونية كما يمكن تجزئة يوم واحد من حياة إنسان إلى كتاب كامل كما هي الحال مثلاً بالنسبة الى رواية"ليلة لشبونة"لريمارك، وهي رواية كاملة عن ليلة واحدة في محطة قطارات في لشبونة. المشكلة هنا هي أن الأحداث في مسلسل أسمهان، أكبر بكثير مما يتحمله أي مسلسل، فنحن يمكن أن نستمر ببساطة إلى ما لا نهاية، أو إلى مئة حلقة، ولهذا كان لا بد من وجود ضوابط درامية للتعامل مع المادة التي هي أصلاً متشابكة ومتشعبة، وهذه الضوابط هي التي تشكل في عملنا المحاور الدرامية الأساسية ومدى التقائها بالمحاور الأخرى كالجانب الإبداعي والجانب السياسي وجانب الأحداث الكونية الكبيرة في ذلك الحين. ولذلك لا يمكنني القول إن هناك"فلترة"للأحداث بقدر ما تم من انتقاء للأحداث التي هي جزء أساس من تطور الشخصية ضمن مكان وزمان محددين. وفعلياً العمل أكبر بكثير من ثلاثين حلقة، وأنا أتوقع منذ الآن أن يكتب العشرات أن هذا العمل ناقص وهذا لم يذكر ولم يرد، وأنا أوافقهم مسبقاً لأن هناك استحالة في وضع كل التفاصيل، وفي قناعتي ان ما يحكم العمل هو تماسكه وجاذبيته والنقاء في التعامل المرهف مع هذه الشخصية المرهفة التي تعرضت للكثير من الانكسارات، ولكنها كانت دائماً تمثل طائر الفينيق الذي يصعد من النار. يقال إن كل من يقترب من أسمهان يصاب بلعنة ما؟ - حقاً لقد أصابتني هذه اللعنة وحلت عليّ. بدأت العمل كمخرج وكاتب سيناريو جيد على عمل جذاب كعنوان، فالشخصية فيه غامضة ومتداولة ومثيرة. وقد بدأت لعنتها تطاردني عندما بدأت أغوص في تفاصيل ما جرى معها من تفاعلات متبادلة حياتية بينها وبين العالم المحيط. وبدأت تتشخص لي أسمهان شيئاً فشيئاً، وأنا من جهتي بدأت أقع في غرامها، واللعنة التي تلازمني حتى الآن هي أنها غير موجودة في أي امرأة أراها من حولي، وهذا أوجد مشكلة عملية عندي تكمن في توزيع الأدوار، فهي شخصية استثنائية بكل المقاييس، ووفق ما كتبته فهي من حقها أن تكون ساحرة كما تم وصفها، واللعنة الكبرى التي تلازمني الآن تكمن في محاولة مقاربة عالمها، فعلى رغم أنني أنا الذي كتبته، فإنه يدهشني، وبالتالي أجد نفسي بالكامل في إطار لعنتها. من هي أسمهان في المسلسل؟ - لا أعرف... صدقاً لا أعرف...!!