لم يقدّر"الإخوان المسلمون"إمكان تحقيقهم فوزاً ضخماً على النحو الذي حدث في الانتخابات البرلمانية المصرية، وكان جل ما تمناه قادة كبار في مكتب الإرشاد هو بضعة مقاعد فقط. ولم تصدر تلك التوقعات عن تقدير حقيقي لقوة"الإخوان"، بقدر ما تعكس عدم الثقة في أجواء الانتخابات وهيمنة السلطة على جميع مستوياتها، بما فيها تحديد نسبة مشاركة المعارضة بمختلف فصائلها في البرلمان. وجاء فوز"الإخوان"بهذا العدد الكبير من المقاعد كأول الانعكاسات التي تؤكد حقيقة ضعف"الحزب الوطني الديموقراطي"الحاكم نفسه، وتؤكد أنه قوة سلطوية أكثر مما هو تنظيم حزبي سياسي يعتمد على الجماهير، وأن وجوده مرتهن بتركيبة معادلة تؤمن إبعاد"التيار الديني"، كما يحلو لهم وصفه، عن تحقيق الغالبية داخل البرلمان. وتثير النتائج بالضرورة حقيقة ضعف تأثير كل الأحزاب السياسية في الرأي العام المصري، وفقدانه الثقة فيها، إضافة إلى تراجع الحجم التاريخي الموروث لحزب"الوفد". ولا شك في أن الأحزاب تتحمل جزءاً غير قليل من المشكلة لأنها ارتضت التفريط في حقوقها، بل عقد بعضها تحالفات استراتيجية مع"الوطني"في منعطفات تاريخية على حساب التيار الإسلامي، فتراخى عن مقاومة استبداد السلطة وتجاوزاتها ضد حقوق الإنسان حتى وقع فريسة القيود التي كبلت بها السلطة الحياة السياسية. غير أن أهم ما يمكن استخلاصه هو مدى الضجر الذي تولد لدى قطاعات واسعة من المصريين من سياسات الحزب الحاكم والرغبة الملحة لديهم في تحقيق التغيير بطرق سلمية وتداول هادئ للسلطة. وأتصور أن إعاقة هذه الرغبة أو تعطيلها بأساليب بوليسية أو بيروقراطية كما حدث في الجولة الثانية قد يصنع حال احتقان تؤدي إلى خسائر غير مستحبة، تعترض رغبة المصريين في عدم اللجوء إلى أي وسائل غير ديموقراطية لتحقيق مستقبل افضل. نستطيع أن نقرر بوضوح أن أي انتخابات شفافة في مصر لا بد أن تؤدي بالضرورة إلى فوز"الإخوان"بغالبية تسمح لهم بتشكيل الحكومة، وهو أمر شاذ غير مقبول قانوناً: أن تحكم جماعة محظورة غير مؤسسة بالقانون والدستور، على رغم أهليتها واقعياً ومجتمعياً لأن تحكم أو على الأقل تشارك في تدافع مجتمعي سليم نحو بؤرة اتخاذ القرار. ولعل"الغالبية الإخوانية"هي أحد السيناريوات التي أراد النظام تقديمها لدق ناقوس الخطر في وجه قوى دولية كثيرة تطالب بإجراء انتخابات حرة في مصر، ليذكرها بأن انتخابات كهذه لن تقدم سوى البديل الديني، كما أنها إحدى أهم مسوغات الإصرار على ترك الجماعة خارج نطاق المشروعية القانونية والدستورية. على أن اللافت هو مدى الحاجة إلى إصلاح الثقوب في عملية الإشراف القضائي على العملية الانتخابية، على النحو الذي يطالب به"نادي القضاة"، باعتباره الجهة المنوط بها تحقيق مصالح القضاة والحفاظ على كرامتهم، بمقدار تمتعه بتأييد شعبي واسع النطاق، صنعته محاولات النادي المتتالية تصحيح مسار العمل السياسي بتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية وتحقيق إشراف قضائي حقيقي كامل على العملية الانتخابية، بندب قضاة الحكم الذين يجلسون على المنصة وتمكينهم دون غيرهم من الإشراف القضائي على الانتخابات. وهنا يشار إلى أن تجاوز الخلل الذي شاب العملية الانتخابية في بعض الدوائر التي شهدت تجاوزات أو ادعاءات بالتزوير، لن يكون ممكناً من دون النظر في مدى المسؤولية الناتجة من وجود رؤساء للجان من جهات قضائية لا تتحقق لها الصفة القضائية الكاملة التي يريدها النادي، ومن خلفه جموع الشعب المصري. ولا نفهم سبب الإصرار على تنحية المرشحين أو مندوبيهم من مراقبة عملية الفرز وإعلان النتائج، فالصناديق الزجاجية الشفافة لا تغني عن ضرورة حضور ومتابعة عملية الفرز تحقيقاً للشفافية الكاملة. كان واضحاً أن الحزب الوطني يعاني حال اضطراب واضحة، فعلى رغم العبارات الإنشائية الكثيرة التي نفت بها قياداته ما تردد عن وجود صراع بين اتجاهين قديم وجديد داخل الحزب، فإن الحال قد تغني أحياناً عن المقال. ويكفي رصد التصرفات والإجراءات المتضاربة داخل كواليس الحزب، للحصول على ما يشبه الجزم بوجود هذه الإشكالية داخله. كان من هذه الإجراءات تأخير إعلان قوائم مرشحي الحزب النهائية حتى اللحظات الأخيرة، ما اضطرت معه اللجنة العامة للانتخابات إلى تأجيل موعد تقديم أوراق التشريح لتلافي تلك المشكلة. أما الحرب التي دارت رحاها في دائرة قصر النيل القاهرية بين مرشح لجنة سياسات الحزب الحاكم حسام بدراوي ومرشح الجيل القديم نجل رئيس الوزراء المصري الأسبق هشام مصطفى خليل، فتكررت في غير موضع. ودفعت حالات مشابهة مرشحين بارزين للوطني إلى التنسيق مع مرشحي"الإخوان"والتحالف معهم. لكن عدم وضوح الرؤية لدى الحزب الحاكم كان السمة البارزة في حال الاضطراب التي عانى منها، فهو من جهة يعلن رغبة في تحقيق إصلاح سياسي، ومن جهة أخرى يحاول وقف مسيرة الإصلاح، لتضاف هذه المشكلة الحاسمة إلى إشكاليات أخرى متضافرة تعوق إمضاء طريق سهل نحو إصلاح سياسي حقيقي في مصر. لكن علينا أن ننتظر لنرى ماذا بعد. پ ناشط إسلامي مصري - مقرر لجنة الحريات في نقابة المحامين.