فى خضم الحديث عن الإصلاح في الوطن العربي ومع تفرع هذا الحديث وتنوع الخطاب السياسي المرتبط به، يبرز فى المقدمة منه دور مواقف التيارات الليبرالية العربية. وتأتى أهمية هذه التيارات على خلفية أمور ثلاثة: الأول هو أن هذه التيارات هي الأقرب فكرياً إلى المقصود من تعبير الإصلاح فى سياقه الحالي، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، فالمبادئ والأهداف متشابهة، إن لم تكن متماثلة، ما بين الدعوة إلى تحرير اقتصادي وتخصيص للأصول الإنتاجية والخدمية المملوكة للدولة وتشجيع المبادرات الفردية والمشروع الخاص والحوافز المادية وتقليص دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع، إلى فتح الباب لديموقراطية تعددية حقيقية مع تمثيل لكل طوائف الشعب وفئاته وتأكيد السيادة للشعب ودولة القانون واستقلال القضاء وحرية الصحافة والإعلام وكسر احتكار الحكومات لها وإبراز مرجعية الانتخابات الحرة الشفافة كآلية لضمان عملية تداول السلطة، إلى حالة انفتاح ثقافي على الثقافات الأخرى بدون حساسيات مسبقة والاستفادة من عملية التبادل مع تلك الثقافات وإدماج اي عناصر تكون متوائمة مع النظام القيمي الليبرالي، وأخيراً الدعوة إلى منظومة كاملة من القيم الاجتماعية الليبرالية على صعيد الأسرة والعملية التعليمية والعلاقات الاجتماعية وبشأن دور المرأة وموقعها ودور الأقليات وموقعهم السياسي والثقافي والاجتماعي. أما الأمر الثاني الذي يبرز أهمية التيارات الليبرالية العربية فى خضم خطاب الإصلاح الدائر الآن فهو أن هذه التيارات هي من الناحية الرسمية والفعلية ابتعدت أو أبعدت عن السلطة أو المشاركة فيها في البلدان العربية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين 1948. واستمر هذا الاستبعاد أو الابتعاد عقوداً عدة، حيث كانت العودة على استحياء وفي شكل انتقائي من جانب بعض الحكومات العربية القائمة ولاعتبارات تجميلية بالأساس داخلياً وخارجياً في النصف الثاني من السبعينات ولم تكتسب هذه التيارات صوتاً مسموعاً في المنطقة ولدى شعوبها وحكوماتها على حد سواء، سوى بعد أربعة حوادث متدرجة في الأهمية وكل اثنين منهما متزامنان: الحدثان الأولان هما الحرب العراقية - الإيرانية ما بين 1980 إلى 1988 والتي مثلت نموذجاً صارخاً على الاقتتال الدموى بين نظامي حكم أحدهما ثوري إسلامي والآخر قومي عربي تقدمي راح ضحيته اكثر من مليون من أبناء الشعبين وتزامن ذلك مع غزو إسرائيل للبنان عام 1982 ومحاصرة بيروت واجتياح أجزاء منها من دون تحرك فعال يذكر من جانب الدول العربية والإسلامية، أما الحدثان الآخران فهما نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق والمنظومة الاشتراكية في شرق ووسط أوروبا وظهور الخيار الليبرالي الرأسمالي وكأنه الخيار المنتصر في ظل أطروحات نهاية التاريخ لفوكوياما وغيرها. وتزامن ذلك مع الغزو العراقي للكويت عام 1990 وخروج قوات الاحتلال العراقى فقط في ظل حرب قادها تحالف دولي قادته الولاياتالمتحدة عام 1990. فهذه الحوادث الأربعة هزت القناعات الراسخة ? أو ما تبقى منها بعد هزيمة حزيران يونيو 1967 - لدى الشعوب العربية ونخبها السياسية والثقافية وشبابها إزاء جدوى الخيارات القومية العربية والاشتراكية، ولئن كانت التيارات الإسلامية قد استفادت من جانبها من هذه الإحباطات فان التيارات الليبرالية كانت المستفيد الثاني من حيث طرحها بديلاً مختلفاً عما كان موجوداً. أما الأمر الثالث الذي يشكل علامة على أهمية التيارات الليبرالية العربية في سياق خطاب الإصلاح الساري حالياً فيتعلق بالاتهام الذي يتردد كثيراً وتتعرض له التيارات الليبرالية العربية والذى يربط بينها وبين الغرب عامة، والولاياتالمتحدة على وجه الخصوص. وهذه الاتهامات تأتي بالطبع على خلفية تشابه المطالب والمبادئ والأهداف الواردة على أجندة الإصلاح لدى كل من الطرفين، وهي اتهامات ليست جديدة بل لها أصول تاريخية منذ نشأة التيارات الليبرالية العربية عقب الحملة الفرنسية على مصر في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي، إلا انه دون شك أن حدة هذه الاتهامات تصاعدت في الآونة الأخيرة بعد التبنى الصريح من جانب الغرب لدعوات الإصلاح السياسي والديموقراطى في الوطن العربى، سواء في قمة سي آيلاند لمجموعة الدول الثمانيي أو قبل ذلك في كل من مبادرة المشاركة الأميركية الشرق أوسطية ثم مبادرة إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الممتد. ونتيجة لهذه التطورات كال البعض في داخل الدول العربية الاتهامات لليبراليين العرب باعتبارهم"طابور خامس"أو"حصان طروادة"للغرب، وهو اتهام حاول دفعه بالطبع الليبراليون العرب بعدة وسائل، أولها التذكير بأن رؤيتهم للإصلاح سابقة على بلورة رؤى غربية أو أميركية واضحة في هذا السياق، وثانيها حرص العديد من التيارات الليبرالية فى الدول العربية على الاحتفاظ بمسافة من المواقف والجهود الأميركية والغربية إزاء موضوع الإصلاح، على رغم أن بعضهم لم يمانع الاقتراب من هذه المواقف، وثالثها عبر مطالبة بعض التيارات الليبرالية الأطراف الخارجية - في إشارة للغرب - إلى الاكتفاء بدعم التطورات الإيجابية فى اتجاه الإصلاح وتشجيعها من دون التدخل المباشر في مسيرة الإصلاح في البلدان العربية أو إملاء خطوات محددة بشأنها. وما يهمنا هنا هو إبراز موقع التيارات الليبرالية العربية وخطابها السياسي في خريطة التحولات التي تجرى في المجتمعات العربية اليوم. وحتى تتفادى هذه التيارات إخفاقات الماضي عليها التعامل مع العديد من الإشكاليات المرتبطة بهذا الموقع. وأولى هذه الإشكاليات وأهمها من وجهة نظرنا هو تجنب السير على النهج نفسه الذى سارت عليه عندما كانت هذه التيارات في السلطة في العديد من الدول العربية خاصة خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين، والاستفادة من دروس السقوط عقب الحرب العالمية الثانية، وعدم الوقوع في نفس أخطاء حسابات التحالفات السياسية ومعادلات التوازنات المرتبطة بها، والتي أوقعت التيارات الليبرالية العربية حينذاك فى موقف ضعيف ينظر اليه باعتباره تابعاً - إن لم يكن عميلاً - للقوى الاستعمارية الغربية التي كانت تسيطر على الدول العربية من جهة، والتهادن مع متسلطين أطاحوا بالدساتير وحلوا البرلمانات كلما حلا لهم ذلك من جهة ثانية، وتجاهل المسألة الاقتصادية والاجتماعية وما يرتبط بها من أوضاع معيشية لغالبية الشعوب من الفئات الدنيا والوسطى من جهة ثالثة، والاغتراب عن ثوابت الثقافة الوطنية وما يرتبط بها من قيم دينية وانتماء قومي من جهة رابعة، وانزلاق أقدام التيارات الليبرالية العربية في لعبة استبعاد قوى وطنية أخرى من العملية السياسية الشرعية ربما نظراً لاختلاف أيديولوجيتها عن أيديولوجية الليبراليين، أو للنظر إلى هذه القوى باعتبارها منافسة لها على الصعيد السياسي وتتصارع معها على نفس القاعدة الشعبية من جهة خامسة وأخيرة. أما ثاني هذه الإشكاليات، وهي مرتبطة بالأولى، فهي الحاجة لقراءة واعية ومتعمقة وذات بعد تاريخي للواقع العربي الراهن ومتطلباته واحتياجاته وما يواجهه من تحديات، حتى يعبر خطابها السياسي عن قضايا حقيقية وليس قضايا من نسيج خيالها أو قضايا تعتبرها هذه التيارات الليبرالية العربية أساسية بينما هي في عيون الجماهير تعتبر هامشية وثانوية. وثالث هذه الإشكاليات هي لغة الخطاب السياسي، فعلى التيارات الليبرالية العربية مراجعة لغة خطابها السياسي والاجتماعي والثقافي حتى تستخدم لغة أكثر قرباً من الشعوب وقابلية للفهم من جانب المواطن العادي ومتماشية مع نظام حياته وقيمه الأساسية وإرثه الدينى والثقافي والأخلاقي، وبحيث لا تكون هذه اللغة طلاسم صعبة الفهم والاستيعاب على المتلقين الذين يفترض أن يكونوا غالبية الشعب. وهنا نذكر أن هذه الإشكاليات تشترك فيها التيارات الليبرالية العربية مع التيارات اليسارية العربية كما سبق وان أشرنا في مقال سابق بصفحة الرأي بجريدة الحياة عدد 11 أيار / مايو 2005. وترتبط هذه الإشكاليات الثلاث المشار إليها في ما بينها في مسألة واحدة هى تجنب التقليد لتجارب التيارات الليبرالية العربية في الماضي، حيث إن هذا من شأنه أن يعيد لليبرالية العربية روحها المميزة لها وهي ببساطة"ليبرالية"من دون أى مرجعيات تاريخية أو قيود أيديولوجية أو فكرية مستقاة من الماضي، وبالتالي تجنب جمود الخطاب وإطاره الفكري وتعقده بدون مبرر، وبدلاً من ذلك تبنى نظرة مستقبلية من جهة والقيام بعملية تجديد مستمرة ومتواصلة في الفكر والخطاب والبرامج واستراتيجيات التحرك حتى لا تقع فريسة لأخطاء السابق أو أسيرة لعداوات فكرية أو سياسية موروثة، والافادة أيضاً من معطيات تطور الليبرالية على الصعيد العالمي لاستيعاب معطيات إيجابية مثل الليبرالية الاجتماعية وتجنب معطيات أخرى سلبية مثل الليبرالية الجديدة. كاتب مصري.