على رغم أن الحركة الإسلامية في موريتانيا لم تكمل بعد العقد الثالث من عمرها، فإنها كانت أكثر الحركات السياسية في موريتانيا إثارة للجدل، بسبب صدامها المستمر مع السلطة، وبسبب سعي الأخيرة إلى استغلال الحرب العالمية على الإرهاب للقضاء على الإسلاميين في موريتانيا. لكن من أراد الحديث عن الإسلاميين في موريتانيا، سيجد نفسه مرغماً بدوافع الواقع والحقيقة المعاشة، على التركيز على ما يعرف بجماعة"الإخوان المسلمين"، التي تشكل القوة الضاربة في الحركة الإسلامية الموريتانية، فكراً وإيديولوجيا، بل نهجاً وتطبيقاً، فالطرح السياسي هو ذاته طرح"الإخوان المسلمين"عبر العالم الإسلامي، وإن كان إسلاميو موريتانيا يصرون على أن لهم خصوصيتهم المحلية التي تمنعهم من أن يكونوا نسخة طبق الأصل عن جماعة الإخوان المسلمين في أي مكان آخر من العالم، لكن التقاطع يبقى قائماً بين الاثنين في أكثر من ميدان، فرفض التطبيع مع إسرائيل وإعطاء الأولوية للقضية الفلسطينية والتركيز على محاربة الفساد الأخلاقي في المجتمعات الإسلامية، كلها أمور يشترك فيها"إخوان"موريتانيا مع"إخوان"العالم العربي، كما أن إعطاء الأولوية للعمل الاجتماعي والتربوي الذي يميز الإسلاميين في موريتانيا، هو ذاته الموجود لدى جماعات الإخوان المسلمين في البلاد العربية. صراع مزمن مع النظام لعل الحركة الإسلامية في موريتانيا كانت أكثر الحركات السياسية صراعاً وصداماً مع نظام الرئيس السابق ولد الطايع، هذا الصراع الذي بدأ مطلع التسعينات عندما صوت الموريتانيون في استفتاء شعبي على دستور يضمن التعددية السياسية وحرية تشكيل الأحزاب، فسارع الإسلاميون إلى محاولة امتطاء موجة الديموقراطية الواعدة في بلادهم كما خيل إليهم بداية وأعلنوا عن تشكيل حزب سياسي تحت اسم"حزب الأمة"، وتقدموا بأوراقه إلى وزارة الداخلية أملاً في تشريعه، لكن ولد الطايع الذي رأى في الإسلاميين قوة سياسية صاعدة، قد تشكل خطراً على مستقبل نظامه السياسي، سارع إلى رفض الاعتراف بحزب الأمة ومنع الترخيص له، بدعوى أن القوانين الموريتانية تمنع تشكيل الأحزاب ذات الطابع الديني، واستغل ولد الطايع حينها أحداث العنف التي اندلعت في الجزائر بداية التسعينات بعد إلغاء نتائج الانتخابات البلدية التي فاز فيها الإسلاميون، لتأليب الرأي العام الداخلي والدولي ضد الإسلاميين في موريتانيا، وأمام أول تعثر للديموقراطية"الواعدة"، لم يجد الإسلاميون بداً من البحث عن بديل عن حزب خاص بهم،لإدراكهم أن الظروف الدولية والإقليمية لا تساعدهم على التحدي والعناد، فسارع قادتهم السياسيون إلى الانضمام إلى حزب اتحاد القوى الديموقراطية الذي يقوده المعارض أحمد ولد داداه، فيما اختار بعض رموزهم الانخراط في الحزب الجمهوري الذي أسسه ولد الطايع وحكم البلاد باسمه، بيد أن القاعدة العريضة للحركة الإسلامية اختارت النضال في صفوف المعارضة السياسية ضد ولد الطايع، الذي حرمهم الشرعية الديموقراطية. وكان منافس ولد الطايع القوي في الانتخابات الرئاسية سنة 1992 أحمد ولد داداه، أكبر المستفيدين من غضب الإسلاميين على نظام ولد الطايع. وفي سنة 1994 شعر ولد الطايع بأن"المد الإسلامي"بدأ يكتسح الساحة وأن صحوة"إسلامية معارضة"بدأت تشق طريقها في الأوساط الشعبية في شكل مثير للقلق، فكان أمام خيارين للتعاطي مع الإسلاميين: إما أن يسترضيهم لاكتسابهم في صفه، وإما أن يوجه لهم ضربة أمنية توهن قوتهم وتحجم من مكانتهم في الشارع. ونظراً للنفوذ القوي لبعض الحركات السياسية المعادية تقليدياً للحركة الإسلامية، في دوائر صنع القرار في نظام ولد الطايع، فقد كان الخيار الراجح هو الحل الأمني الاستئصالي، فشنت إدارة أمن الدولة الشرطة السياسية حملة اعتقالات واسعة في صفوف قادة ونشطاء الحركة الإسلامية، وبث التلفزيون الرسمي اعترافات لبعض قادة الحركة الإسلامية، يقرون فيها بتأسيس تنظيم سري تحت اسم"حاسم"، كما أعلنت الشرطة أنها وضعت اليد على جناح عسكري لهذه الحركة، يسمى"كتيبة مصعب بن عمير". وكانت تلك الاعتقالات أول اختبار أمني للإسلاميين الموريتانيين، ومع خروجهم من السجن تبين أن الأمر كان يحمل قدراً كبيراً من"الفبركة الأمنية"، وتصفية الحسابات السياسية، فالكتيبة العسكرية المعلن عنها ليست سوى ناد شبابي تربوي يدعى"نادي مصعب بن عمير". وخلال الاعترافات التي بثت عبر التلفزيون الرسمي، أعلن أمير"التنظيم"عن حله وانتهاء العمل السري، وبالفعل كانت الضربة موجعة هزت الحركة الإسلامية في كيانها، فهاجر معظم قادتها إلى الخارج، وانقسم من بقي في الداخل بين معتزل للساحة السياسية، ومؤيد للمعارض أحمد ولد داده. وفي سنة 1998 وبعد دخول موريتانيا مسلسل التطبيع مع إسرائيل، ظهرت المعارضة الإسلامية بقوة وعادت إلى الواجهة، كرأس حربة في مقاومة التطبيع، لكن النظام سارع إلى حل حزب اتحاد القوة الديموقراطية الذي كان يعتبر القناة الشرعية الوحيدة التي يمارس من خلالها الإسلاميون المعارضون نشاطاتهم، وظلت المواجهة سجالا بين الإسلاميين وبين النظام، ودخل الاثنان في لعبة"دوامة الاعتقال والإفراج"، إلى أن كان يوم 3 أيار مايو عام 2003، حيث دشن النظام حملة أمنية واسعة النطاق ضد الإسلاميين، وكان في طليعة المعتقلين الزعيم الروحي للحركة الإسلامية في موريتانيا الشيخ محمد الحسن ولد الددو، والسفير المختار ولد محمد موسى والسياسي البارز محمد جميل ولد منصور، ووجه النائب العام حينها لحوالي 60 من قادة وعناصر الإسلاميين تهمة التآمر لقلب النظام الدستوري بالقوة، والتخطيط للقيام بأعمال إرهابية، وفي الوقت الذي كان فيه النظام مشغولاً أمنياً بملاحقة الإسلاميين، مستغلاً التفجيرات التي وقعت في الدار البيضاء والرياض،"أوتي الحذر من مأمنه"كما يقال، وجاءته الضربة من حيث لم يتوقع، ففجر يوم الثامن من حزيران يونيو عام 2003 تحركت مجموعة من الضباط من ذوي التوجهات القومية العربية، واستولوا على القصر الرئاسي وقيادة الأركان في محاولة انقلابية فشلت بعد نحو 36 ساعة من المعارك في شوارع العاصمة نواكشوط، ووسط حالة الفوضى التي سادت العاصمة خلال اليوم الأول من المحاولة، أخلى حراس السجن سبيل قادة الإسلاميين وأفرجوا عنهم. محمد خونا ولد هيدالة وما إن أعلن عن فشل المحاولة الانقلابية حتى سارعت أجهزة الأمن إلى ملاحقة الإسلاميين المفرج عنهم, وأعادت اعتقالهم، وسلم معظمهم أنفسهم إلى سلطات السجن طواعية، واتهم ولد الطايع حينها الإسلاميين المعتقلين بالتنسيق مع الانقلابيين من أجل الإطاحة بنظامه، لكن أمام غياب أي دليل على تلك التهمة، ومع اقترب الحملة الانتخابية للرئاسيات سنة 2003، اضطر ولد الطايع لمغازلة الرأي العام الذي كان مستاء في غالبيته من تلك الاعتقالات التي طالت رموزاً دينية لها مكانتها في المجتمع، فأمر بالإفراج عن الإسلاميين، وأطلق سراحهم بموجب قرار يمنحهم حرية موقتة، لكن الإسلاميين خرجوا من السجن أكثر إحساساً بالمرارة والظلم، وأكثر نقمة على ولد الطايع ونظامه، فألقوا بكامل ثقلهم خلف الرئيس السابق محمد خونا ولد هيدالة الذي اعتبر أقوى منافس لولد الطايع في تلك الانتخابات، وشكل الإسلاميون الوقود الجماهيري الفعلي لحملة المرشح هيدالة. وبعد انقشاع غبار المعركة الانتخابية، وهزيمة المرشح الذي دعمه الإسلاميون في انتخابات وصفتها المعارضة حينها بأنها"انقلاب انتخابي"، نتيجة للتزوير الفاضح الذي شابها، دخل الإسلاميون في حوار مع بعض الشخصيات السياسية المستقلة التي كانت تدعم ولد هيداله، إضافة إلى بعض القوميين الزنوج، وأسفرت المفاوضات عن تشكيل حزب سياسي تحت اسم حزب الملتقى الديموقراطي حمد، لكن رد النظام كان سريعاً، فقد رفضت وزارة الداخلية مجرد استلام أوراق الحزب، وأبلغ المسؤولون في الوزارة قيادة الحزب أن لديهم معلومات كافية عن الحزب، تكفي لرفضه مسبقا ومن دون الاطلاع على ملفه. ولم يمهل ولد الطايع الإسلاميين فرصة التقاط أنفاسهم من صدمة رفض الحزب الجديد الذي كانوا يأملون في ترخيصه، بعد أن تصدرت مراكزه القيادية شخصيات من غير الإسلاميين، فقد انتهزت السلطات فرصة اعتقال قائد تنظيم فرسان التغيير المسلح الرائد صالح ولد حننا ورجل التنظيم القوي عبد الرحمن ولد ميني بعد تسللهما إلى داخل البلاد لتنفيذ انقلاب كانا يخططان له بالتعاون مع ضباط داخل البلاد، إضافة إلى وجود مجموعة من الشباب المحسوبين على الإسلاميين في صفوف الجناح المدني لتنظيم فرسان التغيير، فسارعت سلطات الأمن إلى اعتقال قادة الحركة الإسلامية من جديد ووجهت لهم تهمة التنسيق مع الانقلابيين، وأمام إصرار الانقلابيين على نفي أية صلة لهم بالإسلاميين، اضطرت السلطات الأمنية للإفراج عن قادة التيار الإسلامي، لكنها سرعان ما أعادت الكرة واعتقلتهم مرة أخرى، وذلك بعد نشرت مواقع إلكترونية موريتانية محسوبة على الإسلاميين صوراً لأشخاص في ثياب داخلية وهم يتعرضون للتعذيب. واتهمت الشرطة قادة الإسلاميين بفبركة تلك الصور وتزويرها بغية تشويه سمعة الشرطة، وألقت من جديد بقادة الإسلاميين خلف القضبان أشهراً عدة، قبل أن يفرج عنهم قاضي التحقيق لفترة موقتة. وفي ظرف أقل من ثلاثة أشهر، أعادت الشرطة الكرة تارة أخرى وشنت حملة اعتقالات واسعة شملت تيارات الإخوان المسلمين والتيار السلفي، واتهمت معظم المعتقلين بالقيام بأعمال من شأنها أن تعرض الموريتانيين للانتقام الأجنبي، في إشارة إلى قيام بعض الشبان الموريتانيين من السلفية الجهادية بالقتال ضد الجيش الجزائري إلى جانب الجماعة السلفية للدعوة والقتال. لكن ما لم يكن يخطر لولد الطايع في بال، أن التاريخ يكاد يعيد نفسه، فكما وضعت محاولة انقلاب حزيران 2003 حداً لمسطرة قضائية ضد الإسلاميين، جاء انقلاب 3 آب أغسطس 2005 الذي أطاح بولد الطايع نهائياً، ليضع حداً للمسطرة الجديدة ضدهم، وباتت محاكمته هو أقرب إلى الممكن، من محاكمة الإسلاميين التي رتب لها وعمل على توجيه ضربة قاسية من خلالها للحركة الإسلامية. جبهات أخرى ولئن كان الإسلاميون الموريتانيون أهدروا جهداً كبيراً في الصراع مع ولد الطايع ونظامه الأمني، فإن جهود انتشارهم شعبياً تواصلت، لحد أن بعض المراقبين اعتبر أن كل ضربة أمنية وجهها ولد الطايع للإسلاميين، إنما كانت تزيدهم قوة ومداً شعبياً، نظراً لأن التهم التي اعتادت الشرطة توجيهها إليهم، غالباً ما تكون أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، كتوجيه تهمة نشر صور خليعة تخل بالآداب العامة وتنافي تعاليم الشريعة الإسلامية، إلى الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وهو من أكبر الشخصيات العلمية الدينية في العالم العربي. وشهد التيار الإسلامي خلال الفترة الماضية قفزة نوعية في الكم البشري لمناصريه والمتعاطفين معه، حتى غدا قوة شعبية يحسب لها السياسيون ألف حساب، ويتسابقون للتحالف معها، أو على الأقل لتجنب منافستها.