استيقظ الموريتانيون صبيحة الثالث من آب أغسطس الجاري على وحدات من الجيش والحرس الرئاسي تنتشر وسط العاصمة نواكشوط، وتطوق القصر الرئاسي وقيادة أركان الجيش والمواقع الحساسة في العاصمة. حسب الناس للوهلة الأولى أن الأمر كما هي الحال في كل مرة يتعلق بمحاولة انقلابية فاشلة. وتضاربت الأنباء والاشاعات في شأن حقيقة الوضع، وسرعان ما كانت المفاجأة الغريبة بالنسبة للجميع، اذ تبين أن الأمر يتعلق هذه المرة بمحاولة انقلابية ناجحة، على غير المعهود في المحاولات السابقة، ومن دون رصاص أو سفك دماء. وما إن بدأت قائمة أسماء الضباط الذين نفذوا"الانقلاب الناجح"تتكشف حتى استغرق الناس في حيرة من أمرهم وبدا الأمر أقرب إلى الخيال، فالحديث يدور حول أقرب الضباط من رئيس الجمهورية معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، المسؤولين خلال الفترة الماضية عن إحباط كل المحاولات الانقلابية التي حاول منفذوها الإطاحة بنظامه، وكان ولاؤهم للرئيس يقينا لا يماري فيه إلا مكابر. وظل الشارع منقسما بين مصدق ومكذب وحائر، حتى ساعات الظهر الأولى، عندما قطعت وسائل الإعلام الرسمية الشك باليقين، وأعلنت عن البيان الأول للانقلابيين، الذي أكدوا فيه بسط سيطرتهم على الأمور، وشرحوا دوافعهم للتحرك من أجل"وضع حد للاستبداد والتسيير الأحادي الذي ميز النظام البائد"، ، تلى ذلك البيان الثاني الذي كشف لائحة أسماء"المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية"، الذين سيتولون إدارة دفة الحكم في البلاد خلال الفترة القادمة. القادة الجدد للبلاد هم ضباط كانوا حتى الثالث من آب من أهم الأركان الأمنية والعسكرية لنظام ولد الطايع. فقائد الانقلاب العقيد اعل ولد محمد فال، أحد أصدقاء ولد الطايع المقربين، وقد رافقه في تشكيل أول لجنة عسكرية تقود انقلابا في موريتانيا عام 1978، وظلا رفيقين وشريكين في كل الانقلابات التي شهدتها موريتانيا بعد ذلك، حتى كان كانون الاول ديسمبر عام 1984 عندما شاركا معا في انقلاب على الرئيس السابق محمد خونا ولد هيداله، تسلم بموجبه ولد الطايع مقاليد السلطة في البلاد. وفي سنة 1985 عين ولد الطايع صديقه المقرب اعل ولد محمد فال مديرا للأمن الوطني، وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى حين انقلابه على صديقه القديم في الثالث من الشهر الجاري. وأشرف العقيد اعل ولد محمد فال خلال الاعوام العشرين الماضية على كل الملفات الأمنية في عهد ولد الطايع، والتي تثير منظمات حقوق الإنسان حولها الكثير من الجدل والتنديد، وإن كان بعض العارفين بخفايا الحكم في موريتانيا يقولون إن ضابط الشرطة دداهي ولد عبد الله ابن عم ولد الطايع أحد نواب اعل ولد محمد فال، كان يتولى بإشراف مباشر من ولد الطايع تسيير بعض الملفات الأمنية الساخنة، خصوصا ملفات المعتقلين السياسيين، الأمر الذي جعل بعض المعارضين وناشطي حقوق الإنسان في موريتانيا يحجمون عن تحميل العقيد اعل ولد محمد فال مسؤولية الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان التي شهدتها موريتانيا خلال العقدين الماضيين، ويلقون باللائمة في تلك الانتهاكات على المفوض دداهي ولد عبد الله. وعرف عن اعل ولد محمد فال أنه شخص كتوم، يحب الابتعاد عن الأضواء، ويستمع أكثر مما يتكلم، ويحظى باحترام وتقدير في أوساط المؤسسة العسكرية، وهو من بين الضباط الذين حاربوا في جبهات القتال خلال السبعينات، إبان الحرب التي خاضتها موريتانيا ضد جبهة البوليساريو في الصحراء الغربية، وكانت لمكانته بين العسكريين الدور الكبير في تسهيل مهمته في الإطاحة بولد الطايع بهدوء ومن دون إراقة دماء، وقد ساعدته في ذلك مجموعة من الضباط كانت من أقرب المقربين من النظام السابق، كما هي الحال بالنسبة للعقيد محمد ولد عبد العزيز قائد الحرس الرئاسي، الذي يعود إليه الفضل في إحكام السيطرة على القصر الرئاسي، والمواقع الحساسة في العاصمة فجر يوم الانقلاب. سفر ولد ولد الطايع غير الخطة وعلمت"الحياة"، أن قادة الانقلاب كانوا يخططون للإطاحة بولد الطايع أثناء زيارة كان مقررا أن يقوم بها يوم 15 آب الجاري إلى مدينة"النعمة"شرق البلاد على بعد 1200 كلم شرق نواكشوط، لتدشين مطار دولي تم تشييده أخيراً. ووفقا للخطة التي كانت مرسومة ومعدة بإحكام، فإن فرقة الحرس الرئاسي التي كانت سترافق ولد الطايع لتأمين حراسته خلال الزيارة، ستقوم باختطافه من مقر الاستراحة الذي كان سيستريح فيه بعد وصوله إلى المدينة، وقبل أن يشرف على حفلة تدشين المطار، ومن ثم أخذه إلى قيادة المنطقة العسكرية في"النعمة"، حيث سيكون قائدها في انتظارهم بقواته، وفي الوقت نفسه الذي كان مقررا أن يتحرك الضباط هنا في نواكشوط مدعومين بفرق من الحرس الرئاسي، للاستيلاء على القصر الرئاسي وقيادات أركان الجيش والحرس والدرك واعتقال قادتها. لكن السفر المفاجئ لولد الطايع إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في تشييع جنازة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، دفع قادة الانقلاب إلى التفكير في خطة بديلة، تجنبهم الصدام المباشر بصديقهم القديم، وترفع عنهم حرج اعتقاله، فسارعوا إلى وضع خطة بديلة على جناح السرعة، وتحركوا فجر يوم الأربعاء 3 آب مستولين على السلطة. وبعد دخولهم القصر الرئاسي أبلغوا زوجة ولد الطايع أن هناك محاولة انقلابية للإطاحة بزوجها، وأنهم سيقومون بإحباط تلك المحاولة، وطلبوا منها مغادرة القصر حتى يتسنى لهم التصدي للمحاولة، وغادرت السيدة الأولى القصر وهي تحسب أن أصدقاء زوجها جاؤوا لحماية كرسيه، لا للاستيلاء عليه. تغير رأس الهرم المراقبون للأحداث في موريتانيا يرون في الانقلاب الجديد، نوعا من ضخ دم جديد في النظام، قام به أركانه، تمثل في الإطاحة بقمة هرم السلطة، مع الإبقاء على قاعدة هذا الهرم، وتعزز ذلك الطرح مع استدعاء الحكام العسكريين في موريتانيا، لأحد السياسيين المقربين من ولد الطايع ليتولى رئاسة الحكومة الانتقالية. ويتضح جليا أن ما حدث في موريتانيا هو أن الضباط المقربين من ولد الطايع، رأوا أنه بعد أكثر من عشرين سنة على تسلمه الحكم في البلاد، بدأت مقومات نظامه تنهار، وأصبحت الاعتقالات العشوائية سمة غالبة عليه، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية الخانقة، وفقدت الانتخابات صداقيتها بفعل التزوير الفاحش، فلما أدركوا أن النظام بات يقف على"ثنية الوادع"، وأن أيامه أصبحت معدودة، وقد يطيح بهم معه، إن هو سقط على أيدي غيرهم، بادروا إلى إزاحة رأس هذا النظام، باعتباره المسؤول المباشر عن كل ما حدث، ولم يكتف القادة الجدد بإزاحة ولد الطايع وإكمال المشوار على نهجه، فقد جاؤوا من أجل التغيير ? كما قالوا - واصطحبوا معهم إلى القصر الرئاسي عريضة بأهم مطالب المعارضة والسياسيين في البلد، وأعلنوا عن تعهدهم تنفيذها، حيث التزموا بتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في ظرف سنتين، ومنع أعضاء الحكم العسكري وشركائهم في الحكومة الانتقالية من المشاركة في تلك الانتخابات، إضافة إلى التعهد بتغيير الدستور لمنع تجديد العهدة الرئاسية لأكثر من مرة واحدة، وتقليصها إلى 5 سنوات بدلا من ست. ينضاف إلى ذلك ما أعلنوه - وهم حكام عسكريون - من عدم تعطيل بنود الدستور المتعلقة بالحريات العامة والفردية، والسماح للأحزاب السياسية بمزاولة نشاطاتها، وكذلك السماح بصدور الصحف المستقلة. واستفاد الحكام الجدد من تجربة ولد الطايع غداة وصوله إلى السلطة في كانون الاول 1984، حين أخلى السجون من المعتقلين السياسيين، كاسبا بذلك دعما جماهيريا واسعا في ذلك الوقت، وسارع الحاكم العسكري الجديد لموريتانيا إلى الإفراج عن قادة المعارضة الإسلامية الذين كان ولد الطايع ينوى تقديمهم للمحاكمة بتهمة الإرهاب. البعد الخارجي ولئن كان ولد الطايع اتكأ في سياسته الخارجية على علاقات مع إسرائيل مدعومة أميركيا، مثيرا بذلك مشاكل مع بعض الدول العربية، ومتحديا مشاعر غالبية شعبية ترفض هذه العلاقات، فإن الحكام الجدد سارعوا إلى طمأنة الشركاء التقليديين على مستقبل العلاقات معهم، حيث استقبل رئيس المجلس العسكري العقيد اعل ولد محمد فال سفيري الولاياتالمتحدة وإسرائيل في نواكشوط، لطمأنتهم على مستقبل الشراكة السياسية مع بلدانهم، ويقول بعض المراقبين إن الحديث عن دعم فرنسي للانقلاب - ولو بصورة غير مباشرة - دفع واشنطن وتل آبيب إلى رفض الانقلاب بقوة والدعوة لعودة ولد الطايع خلال اليوم الأول، وهو ما تراجع عنه البلدان نسبيا بعد لقاء الحاكم الجديد بالدبلوماسيين الأجانب في موريتانيا، بعد ذلك بدأت ملامح الاعتراف الدولي والتسيلم بالواقع الجديد تلوح في الأفق، خصوصا في مواقف دول الجوار التي تعتبر حاسمة إلى حد بعيد، حيث استقبل العقيد اعل ولد محمد فال مبعوثا خاصا من العاهل المغربي محمد السادس، كما تحدث هاتفيا إلى الرئيس السنغالي عبد الله واد، قبل أن يستقبل وزير خارجيته في نواكشوط، كما وصل وفد من اتحاد المغرب العربي برئاسة وزير الخارجية الليبي عبد الرحمن شلقم، ووفد من الاتحاد الإفريقي برئاسة وزير خارجية النيجر، وكلا الوفدين صرح رئيسه بأنهم لمسوا إجماعا لدى الرأي العام الموريتاني على ضرورة التغيير الذي حدث، وينتظر أن يستقبل خلال الأيام القليلة القادمة مزيدا من الوفود الأجنبية. العسكريون يحاصرون ولد الطايع سياسيا وميدانيا بادر المجلس العسكري الجديد إلى تفكيك الجدار الذي كان ولد الطايع يحيط به نفسه من السياسيين المقربين، فاستدعى وزيره الأول السابق ومدير ديوانه، سيدي محمد ولد بكر لتولي رئاسة الحكومة الانتقالية، وتتردد معلومات عن بدء مشاورات مع بعض الشخصيات السياسية المقربة من ولد الطايع لإشراكها في تسيير المرحلة الانقلابية، وجاء حديث ولد الطايع لقناة"العربية"ليزيد في تثبيت أركان الحكم الجديد، فقد تعاطى الشارع الموريتاني مع دعوة ولد الطايع الجيش للتدخل من أجل إعادته إلى السلطة، على أنها دعوة إلى الحرب الأهلية، وأثار حديثه عن"حسنات"نظامه، وعدم اعترافه بالأخطاء التي ارتكبها في السابق، مزيدا من اشمئزاز الشارع الموريتاني، الذي تراوحت ردود فعله بين السخرية من حديث ولد الطايع، ومشاعر الشفقة من المظهر الذي ظهر به. ويرى المراقبون أن ولد الطايع خسر المعركة الداخلية نهائيا، وهو في طريقه إلى خسارة المعركة الخارجية أيضا، فالمعارضة التقليدية سارعت إلى الترحيب بالانقلاب باعتباره يحقق لها أحد مطالبها وهو الإطاحة بولد الطايع. أما أنصاره التقليديون وفي مقدمهم الحزب الجمهوري الذي أسسه وكان يحكم البلاد باسمه، فقد سارعت أطره إلى تأييد النظام الجديد وخرجوا في مسيرات مساندة في مختلف أرجاء الوطن، واتهموا ولد الطايع بتكريس نظام قبلي يعتمد على الرشوة والمحسوبية والجهوية. ورويدا رويدا يواصل الحكام العسكريون في موريتانيا طريقهم نحو تثبيت أركان سلتطهم، من خلال إطلاق تعهدات كانت محل إجماع كافة الفرقاء السياسيين في البلاد، في حين بدأ الموقف الدولي يتحلحل لصالحهم، بعدما أعلنوا أنهم سيقودون البلاد إلى عهد ديمقراطي جديد. ولا تزال أمامهم مجموعة خطوات ينتظر أن يقوموا بها وفي مقدمها الإفراج عن الضباط والعسكريين المسجونين، بتهمة المشاركة في محاولات انقلابية سابقة، وفي مقدمهم زعيم تنظيم فرسان التغيير الرائد صالح ولد حنا الذي قاد محاولة حزيران يونيو 2003، التي شكلت بداية النهاية بالنسبة لنظام ولد الطايع.