مع ارتفاع اسعار الطاقة الهيدروكربونية، تعالت الأصوات لزيادة الاعتماد على الطاقة النووية التي وصفت بأنها أكثر ملاءمة للبيئة وأكثر ضماناً، فضلاً عن كلفتها النسبية المقبولة. لكن الصورة التي صدرت أخيراً عن هيئة تفكيك المحطات النووية البريطانية وتنظيفها دلت على أن نفقات المعالجة معرضة للتصاعد المستمر، ناهيك أن الأخطار البيئية الناجمة عن التلوث الإشعاعي تبقى أفدح من مخاطر التلوث بالغازات الكربونية التي تستطيع الطبيعة تولي القسم الأكبر منها. وبذلك تصبح الطاقة النووية موضع شك في قدرتها على تقليص فواتير الكهرباء من دون تغريم الدول نفقات غير محدودة في تنظيف التلوث، وتخزين النفايات النووية. وقدرت الهيئة البريطانية في تقرير صدر في الأسبوع الماضي كلفة تنظيف 20 محطة طاقة نووية هرمة بستة وخمسين بليون استرليني 105 بلايين دولار بزيادة عشرين في المئة عن التقديرات السابقة. ودعت إلى سرعة التنظيف لا سيما في محطة ماغنوكس وتقليص عمرها الافتراضي من 125 سنة إلى ربع قرن فقط. جاء ذلك في تقرير استشاري سيبقى مفتوحاً للنقاش حتى 11 تشرين الثاني نوفمبر المقبل على أن يستكمل العرض في موعد أقصاه كانون الأول ديسمبر من هذا العام. وأقر السير أنتوني كليفر، رئيس الهيئة، بأن كلفة اكمال عملية تفكيك المحطات أعلى بثمانية بلايين استرليني عما كان متوقعاً في التقارير القديمة التي آلت إليها من الهيئة السابقة. و بنيت التقديرات على أساس التكلفة المقدرة لعمر كل موقع بناء على تقييم هيئة الطاقة النووية البريطانية ومؤسسة الوقود النووي البريطاني. ورأى أن زيادة الكلفة تدخل في برنامج يتم تنفيذه على مدى قرن، وبالتالي لا تؤثر بشكل كبير على النفقات العامة. ويأتي تفكيك وتنظيف موقعي محطة سيلافيلد ومحطة دونراي شمال بريطانيا على رأس أولويات الهيئة، بحيث أكتشف في محطة سيلافيلد الكائنة في مقاطعة كمبريا تسرب إشعاعي في نيسان أبريل الماضي. وتضم المقاطعة أكبر حديقة طبيعية عامة محمية في أوروبا منطقة البحيرات التي ظهرت فيها الرومانسية الشعرية البريطانية. ورجح البعض أن يكون التسرب وقع قبل ذلك بأشهر حتى تم اكتشافه. وهذا يعبر عن مدى خطورة المحطات النووية على المناطق التي تقام فيها، ناهيك عن كلفة صيانتها والتخلص منها الباهظة. تأسست هيئة تفكيك المحطات النووية في نيسان أبريل الماضي بموجب قانون العام 2004 لتتولى مسؤولية معالجة تركة بريطانيا النووية. ووجدت التحقيقات التي أجريت في حزيران يونيو الماضي نقاط ضعف وصفت بأنها مهمة، وأمر المحققون بتحسين التدقيق ووضع السجلات التاريخية في موعد أقصاه تشرين الأول اكتوبر المقبل. وقالت هيئة تفكيك محطات الطاقة النووية إن عليها أن تحدد أفضل السبل لجمع المواد الملوثة بأمان دون تعريض البيئة للخطر. وأضاف السير أنتوني كليفر في حديث إذاعي لمحطة راديو 4 التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية إن المحطتين ماغنوكس، ودنجينيس الواقعتين في مقاطعة كنت، ومحطة أولدبري في مقاطعة غلوسترشير، ومحطتي سايزويل في سافولك وويلفا شمال ويلز، وجميعها نووية، سيجري إقفالها بحلول العام 2010. على أن مشاكل قطاع الطاقة النووية البريطانية الكبرى ليست من التسرب الحالي أو من المفاعلات التي شاخت قبل موعدها. بل بعد سبعين عاما بحسب توقعات الهيئة الرسمية، فيما الأعمال التي ستجري خلال الخمسة عشر عاماً المقبلة ستبقى تحضيرية للمهام الكبرى الملقاة على عاتقها. وبالتالي فإن الأعباء الحقيقية ستكون من مسؤولية الأجيال المقبلة لتتحمل تبعتها المادية وغير المادية وأهمها بالطبع مسألة تخزين المواد المشعة وسلامتها وأمنها من يد العابثين أو الإرهابيين، بحسب قول السير أنتوني. وأضاف رئيس الهيئة،"نأمل في التمكن من اتمام عملية التفكيك خلال فترة لا تتجاوز ربع قرن". خبراء هيئة الطاقة النووية سيتمكنون خلال المرحلة الاستشارية من شرح الوثائق والرد على الاستفسارات. ومن المنتظر أن توضع استراتيجية عمل يتم عرضها في الربيع المقبل. وعلى رأس الحلول المطلوبة إيجاد بديل لموقع دريغ في مقاطعة كمبريا، وهو المكان الوحيد في بريطانيا الذي يمكن تخزين النفايات النووية الضئيلة الإشعاع فيه إلى أجل غير مسمى. لكن المشكلة في الموقع أنه يبعد ميلا واحدا عن الساحل الذي يقضمه البحر بمعدل متر سنويا. وستواجه الأجيال المقبلة خطر غرق الموقع بعد 500 عام على أقرب تعديل، أو خمسة آلاف عام على أبعده. لكن هذا الخطر قد يتضاعف إذا ما تسارع ذوبان الجليد في القطبين بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري. وزير البيئة البريطاني السابق، مايكل ميتشر، أعرب عن قلقه من تكلفة التفكيك وألقى شكوكا حول جدوى الطاقة النووية. وقال في حوار علني،"الطاقة النووية ليست ضرورية ولا مرغوبة لتلبية الأهداف الموضوعة لتحقيق شروط تغير المناخ". فهي بحسب تقديره تنطوي على تكلفة مادية باهظة، ومخاطر عسكرية وبيئية من الواجب تفاديها. وأهم المخاطر تكمن في كيفية دفنها إلى الأبد. وأضاف أنه على رغم حرص الحكومات المتعاقبة على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، لا يبدو أن أيا منها نجحت في حل مشكلة الدفن أو التخزين الدائم الآمن. فيما ترى منظمة غرينبيس غير الحكومية المدافعة عن البيئة، أن تقديرات هيئة تفكيك محطات الطاقة النووية الزمنية غير واقعية، وأن السرعة ينبغي أن تكون أعلى بكثير لبناء مستودعات لدفن النفايات. وقالت جين ماكسورلي، الداعية لحماية البيئة، إن تسريع عملية التنظيف من شأنه تقليص الكلفة النهائية. وأعربت عن خشيتها من أن يكون وراء تعجيل الهيئة الحكومية لعملية التنظيف نية لبناء مفاعلات نووية جديدة. ورأت في بناء المفاعلات النووية جنوناً فعلياً نظراً لأنه سيؤدي إلى مضاعفة حجم النفايات النووية الواجب إيجاد حلول لها على مدى أجيال.