يستمرّ إسقاط الولاياتالمتحدة الأميركيّة لنظام صدّام حسين بإرسال موجات تردّديّة دائمة التبدّل عبر التوازن أو اختلال التوازن في الجغرافيا السياسيّة في منطقة الخليج والمشرق العربي. فخلال ثلاثين عاماً ما بين انسحاب الوجود العسكري البريطاني من الخليج وإطاحة صدّام، تميّزت منطقة الخليج بمثلّث قوى غير مستقرّ، لكن لا يمكن التغاضي عنه، تمثّل في ايران سواء حكمها الشاه أو الملالي، والعراق الذي حكمه البعثيّون، والمملكة العربيّة السعوديّة. وإذا سعى أحد العناصر الأساسيّة في تلك الهيكليّة الثلاثيّة إلى توسيع دوره أو في حال شعر العنصران الآخران بأنّه يهدف إلى ذلك عندها تجد القوّتان السبيل لكبحه. ولم يكن هذا النظام قائماً على كثير من الصداقة والتعاون بين"أضلاع"المثلّث. في الواقع، خلال الحرب الإيرانيّة - العراقيّة التي استمرّت من العام 1980 إلى العام 1988، قُتل ما يزيد عن مليون انسان وأصيب ملايين آخرون وتكبّدت البلدان أضراراً كبيرة في البنى التحتيّة. أمّا اجتياح صدّام للكويت والذي اعتبره الكثيرون مقدّمة لعدوان ضدّ المملكة العربيّة السعوديّة، فخلّف خسائر هائلة في البنى التحتيّة الكويتيّة بالاضافة إلى عدد كبير من القتلى. وأنهى العراق بدوره هذه"المغامرة"مع آلاف القتلى وأضرار ماديّة كبيرة. ولكن على الأقلّ، كان النظام الثلاثيّ قبل العام 2003 معترفاً به وكان اللاعبون جميعاً يتنبّأون بمعظم نشاطاته كما أنّه قام على مفهوم متوازن في خدمة مصالح الدول - الأمم التي تمّ إنشاؤها. أما"النظام"الذي انبثق في منطقة الخليج وما بعدها منذ آذار مارس 2003 فلم يحمل أيّاً من معالم مصالح الدول الثلاثة واولويتها على باقي المصالح. ولهذا السبب، يشكّل النظام الجديد خطراً كبيراً للغاية. اذ دُفعَت المنطقة الى شفير حال تشبه تلك التي عاشتها أوروبا قبل معاهدة وستفاليا عام 1648 وهي المعاهدة التي كرّست الدولة - الأمّة كلاعب أساسي في النظام ما بين الدول. وقبل معاهدة وستفاليا، كان معظم دول أوروبا الشماليّة غارقاً في فوضى"حرب الثلاثين عاماً"وهي فترة ازداد فيها الخلاف الديني بين أمراء القارّة من كاثوليك وبروتستانت والرغبة القويّة التي تملّكت الكثيرين منهم في نشر نسختهم الخاصة عن الحقيقة الدينيّة في المناطق المجاورة كلّها وهذا ما أدخل المنطقة بأكملها في الفوضى. وأخيراً توصّل الأمراء في معاهدة وستفاليا إلى اتفاق يقضي بأن يقنع كلّ منهم بما يملك كما يتمتّع بكلّ الحريّة لفرض المعتقدات التي يختارها على الشعب في"دولته". غير أنّه لا يحقّ لأحد منهم محاولة بسط سلطته السياسيّة أو معتقداته الخاصة خارج حدوده المعترف بها. فنشأت عقيدة"عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى"وساهمت في تشكيل قاعدة قويّة لبزوغ اوروبا كمركز قوى العالم خلال القرون التي تلت... واليوم، يُعتبَر الوضع الجيو - استراتيجي في منطقة الخليج غارقاً في نسخة حديثة من"حرب الثلاثين عام". فالحكّام في ايران يدعون امتلاك نسخة من"الحقيقة"الدينيّة التي طالما تحمّسوا في الماضي لتصديرها إلى الخارج وبالفعل هناك عدد كبير من الشيعة الذين يعيشون خارج إيران، من العراق الى السعوديّة والبحرين والكويت ولبنان. لربما كان معظم الشيعة غير الإيرانيين سكّاناً أوفياء للدول التي يعيشون فيها حتّى أنّ قلائل هم الذين يرغبون في أن يحكمهم ملالي طهران. ولكن هذا الأمر لا يردع بعض الملالي من الحلم في التوسّع. يشرف العراق الذي كان أحد"أضلاع"المثلّث الاستراتيجي المعترف بها على الزوال كدولة - أمّة منفردة وموحّدة في حين تلوح في الأفق ولادة غير بعيدة لمجموعة متطرّفة لامركزيّة مؤلّفة من دويلتين أو ثلاثة دويلات أو ربما أكثر تكون مسلّحة بشكل كبير وتقوم على مقاتلة بعضها البعض عبر الحدود المُتنازَع عليها بشدّة والتي ستشكّل مادة أكيدة للصراع. وفي حال انتهى الأمر"فقط"بانشقاق قسم الغالبيّة الكرديّة العراقيّة عن بغداد، فيكون احتمال عدم الاستقرار على الحدود عبر المنطقة سيىء بما فيه الكفاية. ولكن إذا استمرّ النزاع الطائفي في المناطق ذات الغالبيّة العربيّة في البلاد أو تطوّر إلى حرب أهليّة بين العرب، عندها ستكون التأثيرات في الخليج وفي المشرق العربي كلّه أكثر خطورة. وفي هذه الحال قد تتعرّض دول المنطقة كافة لخطر التوغّل مباشرة في حرب طائفيّة واسعة النطاق ويمكن أن تتخطّى حدود الدول الحاليّة بسرعة فائقة وخصوصاً مع سرعة الاتصالات الحديثة وحساسيّّات الشعوب من مختلف الدول. أمّا اسرائيل فهي القوّة الخارجيّة الوحيدة التي قد يفرح قادتها كثيراً لهذا التطوّر. ولكن ما السبيل إلى تفادي اندلاع هذه الحرب"القاريّة"؟ لا بدّ من أن تقوم الخطوة الأولى في إنشاء"خط ساخن"للأزمات يكون موثوقاً به ويصل بين عواصم الدول التي قد تحتاج اليه. وهي على الأرجح كلّها. ويهدف الخط الساخن للأزمات، كذلك الذي وُضع بين واشنطن وموسكو بعد أزمة الصواريخ الكوبيّة عام 1963 ، إلى إجراء باتصالات في حينه بين قادة الدول وخصوصاً في فترات الاضطراب والتهديد. تمّ استخدام الخط الساخن بين الولاياتالمتحدة وموسكو للمرّة الأولى خلال حرب الشرق الأوسط عام 1967 عندما كانت كلّ من القوّتين العظيمتَين تزوّد أصدقائها في المنطقة بمساعدات عسكريّة ولم تودّ أيّ منها أن تُفهَم تحرّكات البشر والمواد على أنّها موجّهة ضدّ القوّة الأخرى. وسمح الخط الساخن في ذلك العام للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بتفادي تورّط العالم كلّه في اشتباك نووي شامل ينهي البشريّة. كما تُستخدَم الخطوط الساخنة لشرح أنّ بعض الأفعال"كان خاطئاً"قبل أن تتحوّل إلى التسبّب بحرب واسعة النطاق. ويمكن أن تُستعمَل هذه الخطوط للمساعدة في التأكّد من عدم وجود"طرف ثالث"محبّ للأذى يغذّي العدائيّة في ظرف معيّن. ولهذا السبب الأخير، من الضروريّ المحافظة على أمن نظام الخطوط الساخنة من أيّ محاولة تلاعب خارجيّة. بالإضافة إلى إنشاء خطوط ساخنة، تبرز خطوات أخرى عديدة يستطيع بل يجب أن يتّخذها قادة الدول في سبيل تهدئة الأوضاع على المدى المتوسّط والبعيد في الخليج المتوتّر حالياً. ويمكن أن تُقسَم هذه التحرّكات إلى نوعين: تلك الموجّهة نحو الخارج، وتلك الموجّهة إلى داخل المجتمعات. تتضمّن التحرّكات الموجّهة نحو الخارج إصدار بيانات عامّة متعدّدة تشدّد على الشرعيّة والحاجة إلى احترام حدود الدول والسعي إلى المبادرات الديبلوماسيّة لتهدئة العلاقات مع الأخصام المحتملين. وعلى مستوى"تهدئة"المبادرات الديبلوماسيّة، لربّما كانت أهمّها حاليّاً تلك التي يجب أن تتمّ بين إيران ومختلف العواصم العربيّة. فمن الممكن أن تجري زيارات على مستوى الدول والوزارات وزيارات من موظّفين إداريين كبار أو مثقّفين بالاضافة إلى متابعة المحادثات العامة للمشاريع المشتركة في مختلف المجالات، وكلّ هذه الخطوات مصمّمة لتطمين الجميع بأنّ الشرعيّة الأساسيّة لحكومة البلد الآخر هي خارج مجال النزاع. وفي الوقت نفسه، من الضروري متابعة الفريقيَن لاتصالات سريّة على"الخطّ الثاني"للتوصّل إلى هذه التبادلات. ومن شأن هذه الاتصالات أن تؤدّي إلى اكتشاف مجالات التباين بمنأى عن عيون الشعب والعمل مسبقاً للتأكّد من أنّ جهود"الخطّ الأوّل"العلنيّة لم تفشل أو لم تكن غير مثمرة. أمّا التحرّكات الموجّهة إلى داخل كلّ مجتمع وطني بحدّ ذاته فيجب أن تتضمّن جهوداً لإنهاء أي تعبير عن مشاعر تظهر جماعات من شعوب أخرى - سواء كانوا من مواطني البلد أو من الخارج - بصورة الشيطان على أساس انتماءاتهم الدينيّة أو أصولهم الوطنيّة. كما يجب أن تشجّع هذه الجهود نظريّة أنّ"جميع أبناء الله ولدوا متمتّعين بحقوق متساوية ويستحقّون احتراماً متساوياً."أمّا محاولات حشد الدعم للقيام بأعمال تحرّضها الكراهية والعنف والطائفيّة في الخارج - وخصوصاً في العراق - فيجب أن يوضع لها حدّاً نهائياً وصارماً. وأبعد من ذلك، سيكون من المفيد أن يعيد سكان كافة المجتمعات النظر في سبب خوف المجتمعات المجاورة منهم واستمرارها في إخفاء مشاعر الضغينة والانتقام. كم قائداً عربيّاً يدرك مدى معاناة الشعب الإيراني خلال اجتياح صدّام لإيران ومدى استمرار الإيرانيين في إلقاء اللوم على معظم البلدان العربيّة التي ساندت صدّام في تلك الحرب؟ وكم فرداً في النخبة الإيرانيّة يدرك مدى خوف عدد كبير من العرب من توسّع القوّة الإيرانيّة في المنطقة؟ ألن يكون من المفيد أن يجد شعوب كافة هذه الدول السّبُل المناسبة لطرح هذه المخاوف والآلام والاختلافات على بساط البحث بدل أن ينزلقوا باتجاه حرب أخرى بسببها؟ ... لربّما تبدو التحرّكات التي أقترحها صعبة التخيّل أو المتابعة، ولكنني أؤكّد لكم بأنّه مقارنة مع رؤية المنطقة بأكملها تنجرّ إلى حرب قاريّة، لا تُعدّ هذه الطروحات صعبة المنال أبداً. فإن اندلعت"حرب ثلاثين عام"في الخليج والمشرق العربي، لا عجب عندئذ من رؤية الجميع يعودون إلى حقبة القرون الوسطى. كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.