يبدو الكاتب السعودي عواض العصيمي في روايته الجديدة"قنص"دار الجديد - بيروت، كمن يستعيد عالماً من عدم، فلم تعد الصحراء، الفضاء المركزي للرواية، ولا مخلوقاتها هي نفسها، بعد ثورة النفط واكتساح مظاهر التمدن مساحات واسعة في السعودية. لكن مع ذلك يتبدى حضور العالم الصحراوي غير مفتعل، يتوالى سلساً وتلقائياً. يستعيده كعالم قائم بذاته، وكأنما لم يقوض ولم تتداع أركانه بعد. والكاتب، الذي يتفرد من بين الروائيين السعوديين باشتغاله على موضوع الصحراء، لا يرتكز إلى ذاكرة قرائية أو إلى مرويات شفاهية حول مكونات روايته، إنما يذهب في كتابة حياته نفسها كبدوي حقيقي، عاش شطراً من حياته في الصحراء، التي تحضر برمالها، بوحوشها من الحيوان والإنسان، بأشعارها وعاداتها وتقاليدها، بمخاوف ناسها وأحلامهم. في"قنص"ليس من تقديس أو طهرانية يضفيها الروائي على الصحراء، في مقابل ما تمثله المدينة عادة من مادية ودنس، وهو ما جعله يبني عالمه الصحراوي بعيداً من أي نزوع نوستالجي. هذا عالم تحكم كائناته شتى القيم، وتتنازعه مختلف الرغبات، بما فيها رغبة القتل والفتك بالآخر، وهو ما يبرر لقيم القنص أن تسود في الرواية، أي يتحول الإنسان البدوي إلى قناص وطريدة في آن معاً. ذلك التحول هو ما يبغي الروائي القبض عليه، لما يتكشف عنه من إشكال وجودي تعيشه الشخصيات، التي تتعقد العلائق بين بعضها بعضاً من جهة، وبين المكان ومخلوقاته من جهة أخرى. تتوزع الرواية على 20 فصلاً يسردها راو بضمير الغائب، يترك بين فصل وآخر الكلام للشخصيات الرئيسة، أو للأصوات المتجولة، تلك التقنية السردية التي يلجأ إليها الكاتب بغية إثراء العمل وإضفاء التعدد في زوايا النظر لكسر أحادية الراوي. وتنفتح"قنص"على مشهد النار الذي رأت فيه هذلاً الشخصية الرئيسة صورتها، في غسق بعيد ومبهم، والمشهد عينه ستستعيده لاحقاً في آخر صفحات الرواية، وكأنه يعكس سيرة حياتها بأحداثها وويلاتها قبل أن تعيشها فعلياً. ستدهشها صورتها الخاطفة التي بدت فيها فارعة الطول بلون أحمر يغشي العيون، وقبل أن تختفي ستشعر بأشياء غريبة وغير طبيعية. رافقتها طويلاً تلك الصورة، فصارت كلما غضبت أو حزنت أو عاشت وقتاً عصيباً، يمسها من حر تلك النار ويتراءى لها من ألسنتها من يذكرها بها. لكن الحدث المفصلي في حياتها الفتية، وهو في الوقت نفسه يمثل نقطة ارتكاز في بنية العمل، الذي سيقلب حياتها رأساً على عقب، ويؤثر طويلاً فيها، عندما قرر والدها أن تتزوج رجلاً في الپ80 من عمره، كان هذا القرار هو الحل، فلا يغتصبها الدربيل أو يأخذها عنوة. لكن الرعب من الدربيل لا ينتهي بزواج هذلا، ففي ليلة الدخلة يموت الزوج نويشر، مخنوقاً بلحيته الطويلة، وتتهم هي بتدبير ذلك، وحتى لا تتعرض للموت بالمثل من أهل القتيل، ولأن والدها فقير لا يتكئ إلى سلطة أو مال اضطروا إلى مغادرة المكان، وقبل ذلك يتعين عليها أن تغادر حياتها كفتاة، إذ لا بد أن تتخفى في ثوب صبي. ذلك التحول يربكها، ولا تستطيع أن تتلاءم معه. في حياتها الجديدة، يصبح اسمها"ناشي"، اسم الطفل نفسه الذي كانت تتقمصه لتفاجئ به والدها وترى عينيها تتسعان فرحاً. ولا تكف عن التساؤل حول إذا ما كان طمس اسمها الحقيقي سيساعد في أن تنسى من تكون، أو هل تغيير الاسم يسهم في تغيير حقيقة كونها بنتاً، لكن لم تشغل بالها بتلك الأسئلة كثيراً، وإن ظلت تتأرجح بين حياتين، بين شخصيتين منفصلتين لكل واحدة متطلباتها الخاصة. في داخلها تعيش هذلا الأنثى المحرومة من ممارسة أنوثتها، وفي الخارج تحاول أن تنفذ ما يطلبه أبوها من حركات وسلوك معين، حتى لا يفضح أمرها إذ يساوي نزع العمامة عن رأسها، نزع الرأس نفسه. وتدفع أنوثتها المطمورة في ثياب صبي، إلى تفتح جسدها في وعيها وأمامها في شكل حاد، عندما يختلج ويرتبك من لمسة تند عفواً عن يد الراعي أو الزائر الغامض، تلتقيهما في حياتها الجديدة، وكلما أمعن والداها في إخفائها، كلما عبرت نزوات الجسد عن نفسها، حتى ليكاد يكون أمر مداراتها صعباً، تحت مراقبة يومية من الرجال والصبيان ممن يعيشون حولها. على أن مقتل زوج هذلا بتلك الطريقة، لا يغير فقط حياة بطلة الرواية، بل يطاول أيضاً حياة فرحان القناص، الذي راح يعيش هاجس خيانة المرأة له، فيتحول من قناص إلى طريدة عمياء لا تعرف إلى أين يقودها مصيرها. يريد ميتة أخرى تحكي عنها الأساطير، كأن يموت بين براثن سبع. صار يشعر على الدوام أن ثمة من يترصده، ويحصي عليه حركاته، فيترك القبيلة ويذهب إلى البراري، حيث يعرف أين مصدر الخوف، لكن في القبيلة يأتي من كل الأمكنة ومن كل الوجوه. يذهب إلى الموت بقدميه ولا ينتظر حتى يأتيه في هدوء ودعة. وكأنه إذ لم يقتل على الطريقة التي يريدها ويخطط لها فإنه سينسى ويندثر ولا يبقى حياً في الذاكرة. ومثلما طارد هذلا مشهد صورتها في النار، يطارده مشهد ذئاب قتلت على يديه، تطارده بقامات مستقيمة وأرجل بشرية خشنة، ويسمعها تقول ان البدو سيطردون من الصحراء وسيعلقون من أرجلهم على خطافات الجزارين في أسواق اللحوم. يجعل المؤلف من كلام فرحان ما يشبه النبوءة، التي لا تلبث أن تتحقق فعلياً ويرى فرحان نفسه مقدماتها في السياج الحديدي الطويل الذي يفصل بين المناطق، وسيارات تجوب المكان، وأنبوب ضخم يمتص من أعماق الأرض سائلاً أسود ويمضي به إلى جهة بعيدة، أي اكتساح الصحراء وتخريب الحياة فيها. من جانب آخر، يطل الدربيل كشخصية أقرب إلى الخرافة، منها إلى شخصية فعلية، فهو لا يحضر في شكل واضح، لكن تأثيره مميت ولا محدود، رعبه يملأ كل مفاصل الرواية ويدفع الأحداث فيها إلى التأزم. يحضر الدربيل في أوصاف أسطورية، فهو وحش طواف يضاجع العذراوات. ووجوده في الصحراء مثل وجود الشياطين والقحط والموت، أمر لا خلاف على حقيقته. عقد حلفاً مع الصحراء، تترك له ما يتحرك فوقها مقابل إشباع بطنها. واللافت في الأمر أن الفتيات اللواتي يسرحهن، يقعن في حبه، ويود بعضهن لو أنه انهى حياتهن، ولا يتركهن. ومن خلال الإشارات المبثوثة حول الدربيل، يتكشف للقارئ ما يمثله من رمز للمدينة وما تعنيه من أهوال ومخاطر تهدد البدوي والصحراء معاً، الصحراء التي ليس لها سوى بابين، باب مفتوح على السماء، يدخل منه المطر والليل والموت والحياة والأرزاق وغيرها، وباب مفتوح على المدن، يدخل منه الدربيل فقط. استعادة المكان لا يستحضر عواض فقط مكاناً أضحى هامشياً، لكنه إلى جانب ذلك يجعل روايته تحتفي بالحالات الإنسانية مقدار احتفائها بالمكان. وهو عندما يحتفي بكل ذلك، لا يجعل من عمله سجلاً حافلاً بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة في الحياة الصحراوية، إنما يركز على لحظة زمنية بعينها، اللحظة نفسها التي ينبثق خلالها الجوهر الإنساني من تفصيل صغير، في تواشج لافت مع الطبيعة ومخلوقاتها. ومن هنا فالرواية لا تقدم شيئاً عن حياة شخوصها خارج الإشكال الوجودي الذي عاشه كل منها، في لحظة زمنية محدودة، من سنتين إلى أربع سنوات، ففرحان الذي ذهب في بحث طويل عن ميتة لائقة وأسطورية، تسوق هذلا خبر موته في شكل غير مؤكد في ميدان رماية للجيش، وهذلا نفسها التي تبدأ الرواية وتنتهي بها، لا نعرف شيئاً عن حياتها عقب تنكرها في شخصية ناشي، وما آل إليه حالها، سوى أنها كبرت في السن وأخذت تسترجع ذكرياتها، فيما بقي جبروت الدربيل مهيمناً على أجواء الرواية. يسوق الروائي في ثنايا روايته معرفة أنثربولوجية وفيرة تخص الحيوانات وطبائع الناس وأحوال الصحراء، تأتي في شكل ينسجم مع البناء الروائي، لكنها في أحيان قليلة تخرج على سياق الرواية، فتبدو كما لو أن صوتاً من الخارج يمليها، الأمر الذي يربك العمل قليلاً، ويحد نوعاً ما من استغراق القارئ في الأجواء والمناخات الغرائبية التي تقدمها"قنص". طوال قراءة الرواية، يلح حضور ابراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف، باعتبار ما قدماه ولا يزال الكوني يقدمه من اشتغال على الصحراء، باختلاف منطلقات كل منهما، وهذا الإلحاح يأتي كتوقع من القارئ أن يقبض على عواض في حال تلبس بالتأثر بهما أو بتقليدهما، لكن العصيمي نسج رؤية خاصة به، ومنظوراً مختلفاً عما سواه للصحراء وكائناتها من حيوانات وبشر، وبتقنيات سردية لافتة وبلغة متينة بعيدة من الترهل، انطلاقاً من خصوصية المكان نفسه. وإذا وجد هامش في الرواية، يختلط فيه الواقعي بالمتخيل بالعجائبي، والمباشرة بالتأملات العميقة، فإن رواية العصيمي لا تأتي مثقلة بالرموز والألغاز والنزوع الصوفي، ولا متدثرة تماماً بالأسطورة، ولا بين شخصياتها دراويش يتفوهون بالحكمة وكشف الغيبيات. غير أنه تبقى للرواية أسطورتها ورموزها ضمن حدود المكان الخاص وطبيعته.