كانت ضفتا المتوسط حتى في أشد الفترات والعهود توترا، همزة وصل بين شعوبه المختلفة والتي لم تتفق على شيء أكثر من اتفاقها على التبادل الحضاري خلال كل العهود والعصور، إذ انتقلت بين ضفافه المترامية الأطراف البضائع والمخترعات والبشر والأفكار والأديان والثقافات وتلاقحت وامتزجت العادات والتقاليد بحكم عوامل داخلية وخارجية عدة. وفي ظل الدولة الوطنية استمرت قنوات الإتصال بين الضفتين، غير أن الأمر اقتصر على الجانب الرسمي الذي يبقى دائما فوقيا. كما أنه عكس أيضا انعدام التكافؤ بين الطرفين، وهو ما كان وراء غياب الحوار الحقيقي الفاعل والمستمر والبناء، ما يفسّر في البداية فقدان الطرف الجنوبي للكوادر ذات الكفاءة والجودة. إذ لم تتأسس، آنذاك، الجامعات ومراكز البحوث، وحتى الموجودة منها كانت تتحسس طريقها من خلال تخريج كوادر إدارية وتسييرية لا غير. أما اليوم فتغير الأمر كثيرا وأصبحت الضفة الجنوبية تغدق على الضفة الشمالية آلاف العلماء والباحثين سنوياً في عديد التخصّصات، الأمر الذي أدى إلى إحداث تغيير جوهري في العلاقة بين الطرفين، اذ أصبح ذلك ضرورة فرضتها آليات التعايش في فضائنا الجغراسياسي. إلا أننا أصبحنا نعيش منذ سنوات عدة مناخا دقيقا جدّا من المد والجزر بفعل عوامل خارجية عدة لعبت دور الموجه والمؤطر وأثرت سلباً في طبيعة العلاقات بين ضفتي المتوسط. ولا شك في أن الأحداث السياسية الخطرة التي شهدها مسرح الأحداث الشرق أوسطي والتداعيات الناتجة عنه، أوجبت إقامة حوار يهدف للوقوف حائلا دون سطوة الإعلام التضليلي الذي أضاع علينا فرص وقفات التأمل لاستشراف المستقبل. ففي زمن تشتدّ فيه النزاعات والصراعات تحت عناوين شتى ولأسباب مختلفة، وجب على أهل المعرفة والثقافة التحرك من أجل تجسير الهوة التي تهدد بقطيعة أعمق على صعيد العلاقات الأورو-عربية. وفي إطار الواقع الجديد الذي ينعت بالعولمة، ينبغي فتح كل سبل الحوار المعرفي والثقافي بين الطرفين لمأسسة التواصل عبر المؤسسات والمراكز والجامعات على ضفتي المتوسط. التواصل المعرفي نذهب إلى الاعتقاد بأن الشراكة البحثية بين المراكز العربية والأوروبية اليوم أكثر حتمية من أي وقت مضى. وعلى الجانبين العربي والأوروبي أن يرعياها خدمة لمصالحهما معا. وفي هذا الإطار يتطلب تفعيل الشراكة المعرفية والثقافية بين ضفتي المتوسط، الشمالية والجنوبية، اعتماد استراتيجية مغايرة وتوخي منهج جديد قوامه إنجاز مشاريع مدروسة ستؤثر بلا شك في مسارات التقارب والتواصل بين الجانبين، وتجعل القيادات الفكرية والبحثية في الضفتين مهمومة حقا بالبناء المعرفي السليم. وفي ضوء هذا التوجه يمكن أن تحقق شراكتنا المعرفية عددا من الانجازات ذات الطابع التوثيقي والإعلامي التي بمقدورها أن تبلور علاقاتنا المستقبلية على أساس متين من خلال تهيئتها لمناخ الحوار الحق ولأدواته الجديدة المتوافرة بسهولة في الفضاءات البحثية الأوروبية والمنعدمة تقريبا في الضفة الجنوبية. فالمؤسسات والمراكز العلمية الأوروبية تسير وفق فلسفة واستراتيجية واضحتين، وهي معنية في جانب من اهتماماتها بالواقع السياسي والحضاري والديني للضفة الجنوبية للمتوسط وتداعياته المختلفة محلياً ومتوسطياً مثلما حصل في مؤسسة ستراسبورغ للعلوم التي اهتمت بدرس المجتمع العربي الإسلامي اليوم، وغيرها من المؤسسات الأوروبية التي أولت هذا الملف بعض عنايتها. فالمقارنة إذن واضحة، وتستوجب العمل على إرساء شراكة واعدة لتطوير الحوارات الأكاديمية والثقافية المنتظمة بين المؤسسات والمراكز البحثية العربية والأوروبية الحكومية منها والخاصة. وعلى هذا الأساس تتمثل اقتراحاتنا في الملفات الآتية: أولا: إن دور المراكز البحثية في المستقبل يمكن أن يكون فاعلاً ومجدداَ ومولداَ حقاً للمعرفة، لخلق حركية شاملة، تعزيزا لأساسيات التنمية المعرفية العربية من جهة، وتعضيدا للبحث العلمي الأوروبي في الجهة المقابلة. فالمخابر البحثية الأوروبية تضم المئات إن لم يكن آلاف الباحثين المتخصصين من بلدان الضفة الشمالية، قلما يتم إشراك باحثي الضفة الجنوبية في استراتيجية البحث العلمي الأوروبي، مع التأكيد على أن ما ينجز في بعض المؤسسات البحثية الجنوبية يرقى إلى المستوى الأكاديمي الدولي. وفي ضوء ذلك ينبغي وضع بعض المشاريع البحثية المشتركة بين متخصصي الشمال والجنوب، لتكريس الشراكة المعرفية والثقافية، مقترحين في هذا الصدد إنشاء مؤسسة عربية - أوروبية أكاديمية مشتركة بدل إنفاق الأموال الطائلة على إنشاء كراس ظرفية وعابرة عن العالم العربي أو تمويل مشاريع وهمية لم تتوج بأي نتيجة عملية في تعزيز الحوار السليم. إن فكرة إنشاء مؤسسة عربية - أوروبية على شاكلة دار الإنسان La Maison de l'Homme الفرنسية، سيمكن من إعطاء دفع كبير ونوعي للبحث باستيعاب مئات الباحثين من ذوي الاختصاصات المتكاملة، متجاوزين في ذلك المراكز والمؤسسات العربية والأوروبية العديدة الغارقة في القطرية الضيقة، والتي تديرها عقلية انعزالية واضحة من كلا الضفتين، ولم تساهم بالتالي في إيقاظ الوعي المعرفي السليم ولا في بعث أساسيات التنمية المعرفية وليست لها استراتيجيات مدروسة لمجتمع المعرفة. إن إنجاز مثل هذا المشروع يتوقف على حسن اختيار القائمين عليه لوضع المخططات الفاعلة بغية تطوير المعرفة بين هذين الفضاءين الجغراسياسيين. ثانيا : السعي إلى وضع كشاف شامل بمئات الرسائل الجامعية التي أنجزت في الجامعات الأوروبية، وعالجت قضايا تهمّ بلدان الضفة الجنوبية. فمن المحزن حقا أن تضيع مثل تلك المجهودات البحثية وكان الواجب تكشيفها وتصويرها وتبادلها لتعزيز مكتبات ومؤسسات البحث في كلا الضفتين خصوصا أن عددا مهماً جداً من تلك الرسائل الجامعية عالج الجوانب السياسية والثقافية والحضارية المختلفة، الماضية والراهنة، غير أنه لم يتسن الاطلاع عليها من عموم المعنيين بهذا الحقل البحثي الغائب الحاضر في إطار جدلية التواصل بين الضفتين. وهذا ما قلص إمكانات الاستفادة من التجارب المعرفية المتراكمة في فضاءينا. ثالثا: وضع خطة أولية لنشر مئات الآلاف من الوثائق المتوافرة في دور الأرشيف الغربية حول دول الضفة الجنوبية، وهي تتناول الحياة السياسية والاقتصادية والحضارية للضفة الجنوبية. إذ تحتفظ دور الأرشيف الأوروبية بملايين الوثائق منذ بدايات العصر الحديث. وتبني مثل هذا المشروع سيعزّز آليات البحث العلمي لدى الجميع ويوفر أرضية جديدة تعمل على تأطير الحقيقة، خصوصاً إذا علمنا أن الوصول إلى أرشيفات دول الاستقلال في الضفة الجنوبية ما زال غير ميسر حتى اليوم، وما نخالها ستفتح الطريق إليه في المستقبل القريب! رابعاً: إن تفعيل التواصل البحثي والثقافي يتوقف على اعتماد سياسة الترجمة والتعريف المنتظم بالمؤلفات المهمة من اللغات الأوروبية والعكس مؤمل أيضا لبعض الأعمال العربية الرائدة في عديد من التخصّصات في العلوم الإنسانية والإجتماعية. ذلك أن تأمين تلك الترجمات يشكل أحد قنوات الحوار المفضلة والأساسية للتواصل والتفاهم المتبادل، وهو أمر جوهري لبناء السلم والتفاهم بين الشعوب والأمم والأفراد. خامساً: العمل على تعزيز عرى التواصل الثقافي في شكل أكثر توازنا وانتظاما ما يستوجب تنويع وتفعيل وإثراء سياقات التفاعل المسرحي والفني والتراثي بين الضفتين وتقديم اجتهادات مشتركة في ذلك، مع إقامة المعارض والمتاحف المتنقلة دوريا والتي تعكس عمق الثراء الأثري والحضاري لكلا الجانبين، وهذا من شأنه أن يفعَل الحوار بين الأجيال ويربطها برباط الانفتاح وقبول الآخر. الحرية الأكاديمية وهجرة الأدمغة نعرض هنا ما يجب أن تقوم به مراكز البحوث والجامعات العربية والأوروبية لصوغ استراتيجية البناء المعرفي والثقافي بين الجانبين، على أساس إيجاد فضاءات للتواصل المعرفي كي تتشكل لديهما منظومة الدفاع عن حرية التعبير والتي تعتبر إحدى الأولويات التي يجب أن يدافع عنها الباحثون. ذلك أن البحث العلمي في العلوم الإنسانية لا يتمتع اليوم في الضفّة الجنوبية للمتوسط بالحرية الأكاديمية الأساسية، ما يفسر تأرجح أساسيات المعرفة في فضاءاتنا جميعا، خلافا لحرية الممارسة البحثية في الفضاءات الأوروبية. وعليه فإن هاجس الباحثين من كلا ضفتي المتوسط، العمل على أن تتمتع مخابر المعرفة والبحث العلمي بكل الآليات التي يستوجبها الطابع الأكاديمي لتلك البحوث. ومن أهم الإشكالات التي تمكن مناقشتها على الصعيدين العربي والأوروبي ملف هجرة الأدمغة والكفاءات وهي ظاهرة تهم الجانبين. ففضاءات المتوسط الجنوبي تعتبر منطقة طاردة على مستوى عالمي، فيما هي في حاجة إلى من يفتح لها طريق التنمية والتقدم العلمي. وهي تهم أوروبا أيضا، باعتبار أن الكثير من العقول، تهاجر منها الى أميركا وحتى آسيا. وقد عقدت عشرات المؤتمرات حول ملف هجرة الأدمغة من الضفة الجنوبية للمتوسط نحو الفضاءات والمخابر الأوربية أساسا ووضعت التوصيات لإعادة احتضانها في مخابر ومؤسسات الضفة الجنوبية كي تساهم في تعزيز التنمية المعرفية. إلا أن عدم الأخذ بتلك النتائج أو تنفيذ أبسط التوصيات لا يعود إلى الحكومات العربية فقط، وإنما أيضا إلى الجانب الأوروبي تنظيما وتنظيرا، إذ لم يساهم في صوغ التوصيات فبدت كأنها موجهة ضده أساساً باعتبار أنها ستفقده مصدرا مهماً للكفاءات العلمية الآتية من الضفة الجنوبية. غير أن هذا لا يعفينا من تحميل الحكومات العربية مسؤولية عرقلة انبعاث مجتمع المعرفة والبحث العلمي وإرساء فضيلة الحوار. ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى النسبة الضئيلة المخصصة للبحث العلمي والتي تراوح بين نصف وواحد في المئة، في حين تخصص أوروبا بين ثلاثة و3.5 في المائة من الدخل القومي للمعرفة والبحث العلمي والثقافة. إن وضعنا مخجل وفي غاية الدلالة على وضعية المعرفة، هذا الرجل المريض في هيكلية اهتمامات دول جنوب المتوسط. ومع هذا نذهب إلى الاعتقاد بأن الطرف الأوروبي يمكنه المساهمة في إنقاذ الموقف بتقديم النصيحة وعقلنة الاستثمارات التي يقدمها وتقنين المؤسسات وإجراء تقويم للمشاريع المنجزة أو تلك لم تنجز بعد. كلمة أخيرة نسوقها تتعلق باقتراح إنشاء مرصد يتألف من عدد من الباحثين العرب والأوربيين ممن لهم سلطة معرفية للمساعدة في توجيه وتخطيط الشراكة العلمية والمعرفية العربية الأوربية المستقبلية، والعمل على إرساء التعاون السليم بين الجانبين من أجل تنمية المعرفة وجعلها في خدمة السلم والتواصل بين شعوب ضفتي المتوسط. مؤرخ وأكاديمي تونسي