صباح الخير دولة الرئيس، إنه العيد الأول للاستقلال بدونك. أين هي بزتك البيضاء اليوم؟ وأين هو رأس لبنان الشامخ تحمله فوق كتفيك وتدخل قريطم بعد الاحتفال كفارس منتصر أبداً حتى قبل أن تبدأ المعركة. عيون بعض الناس سوف تتطلّع اليوم إلى هيئات ببزات رسمية تحتفل بعيد الإستقلال. ولكن قلوب اللبنانيين تنحني اليوم فوق حلّةٍ بيضاء من الزهر والزنبق البلدي الأبيض في ساحة الشهداء. أنت أصبحت العيد لنا في غيابك كما كنت دائماً في حضورك. السنة الماضية يوم الإستقلال كنا معك في جنيف وكنت كعادتك مليئاً بالأمل للبنان وبالمستقبل، لم تيأس يوماً، لم تتذمّر يوماً بالرغم من الألم والإهانات التي تعرّضت لها وتعرّض لها بلدك الحبيب. اليوم كل لبنان والعالم يسمع ويرى بأمّ عينه ما كنت تتحمّله من أجلنا جميعاً، كنت خط الدفاع الأول عن كل واحد منّا. فإذا كان رئيس وزراء لبنان يُسمّى اليوم بالعبد أمام العالم أجمع، ماذا كانوا يفعلون بك وأي إرادة ساعدتك على تحمّل هذه السنوات الطوال من العلاقات المميّزة. الآن فقط فهمت لماذا نزفت دماً في إحدى الاجتماعات"المميّزة"التي استفردوا بك فيها. الآن فقط بدأنا نشعر الألم الذي أفقدك توازنك في سردينيا فسقطت وكدت تموت ولكن الله أراد لك يوماً آخر، يوماً تفتدي لبنان وشعبه بدمك. كم هو صعب هذا الخريف يا دولة الرئيس فكله محطات عنوانها الوحيد أنت. ففي الخريف الماضي، وفي العشرين من تشرين الأول كانت استقالتك. وفي نفس اليوم، في العشرين من تشرين الأول الماضي، وقف المحقّق الألماني القاضي ديتلف ميليس يسلّم تقريراً للأمين العام للأمم المتحدة يحمل الحقيقة حول من اغتالك. لم أتصل بك لأحمل لك آخر الأنباء من الأممالمتحدة عن التحقيق، لم أزوّدك بأية تفاصيل عما يجري في كواليس مجلس الأمن فمنذ يوم استقالتك كنت تعلم الحقيقة كل الحقيقة وكانت وكأنها قصة موت معلن. استقال الرئيس الحريري في العشرين من تشرين الأول الماضي في السنة الستين من حياته الكبيرة ? القصيرة لنا نحن من أحبه وآمن به وبرؤيته للبنان كما آمنّا برؤيته الإنسانية الواسعة وسع قلبه الكبير. في ذلك اليوم من تشرين الأول كان قد مضى على الرئيس الحريري أكثر من أسبوعين في محاولات يائسة لتشكيل حكومة. وضع الرئيس الحريري صيغ تشكيلات حكومية عديدة ولكن الرئيس لحود كان يرفضها الواحدة تلو الأخرى. كان واضحاً أن الرئيس لحود لم يكن في وارد قبول أية حكومة يرئسها الرئيس الحريري حتى ولو قام هو بنفسه باختيار جميع وزرائها. الجميع كان يعلم أننا أمام مسرحية محبوكة الإخراج والإعداد. كنا في قريطم ننتظر مع الرئيس الحريري لنعرف كيف ستكون خاتمة هذه المسرحية التي كنا نحن فيها متفرجين. كان قد قيل للرئيس الحريري إنه لن يشكّل فقط الحكومة بل سيتمّ منحه صلاحيات استثنائية. بعد انتظار أسبوعين بدأنا نسمي الوضع بانتظار"غودو". لم نكن نعلم أنه بعد سنة على استقالتك يا دولة الرئيس سنتفرّق كل في مكان يكتب كلاً منّا ذرّة واحدة من الألم، الأشغال الشاقة التي فرضت عليك والتي كنا نعتقد أنها سوف تنتهي يوماً بالإفراج عنك وعن لبنانك الحبيب. لقد انتهت يا دولة الرئيس بالإعدام... حرقاً. لم نكن نعلم يا دولة الرئيس أنه بعد سنة على استقالتك سنكون كالبدو الرحّل، كلّ منّا يحمل سطراً من قصتك، ونفحة من حلمك وندور حول العالم نسأل المساعدة في معرفة الحقيقة ونحلم ببيروت التي أحببت حتى الموت. لم تكن تصدِّق أن أحداً يمكن أن يؤذيك كنت تقول"أنا لم أؤذِ أحداً"،"ومن غير المنطق أن يفعلوا ذلك"، ولكنك دائماً كنت تعرف أنك ستدفع ثمن إيمانك بحلمك وكنت مستعداً لدفع الثمن. المرّة الأولى التي شعرت فيها بخطر حقيقي على دولة الرئيس ذهبت إليه وقلت له يا دولة الرئيس أنا خائفة جداً. لأن هؤلاء الناس لا يتورّعون عن شيء. نظر إليّ بهدوء وقال:"إن استقلال البلد بيستاهل". سكت وبدأت أخاف على دولة الرئيس بصمت. واليوم، أتمنى أن نستأهل الثمن الذي دفعه. يوم العشرين من تشرين الأول الماضي كانت بداية موسم خوف انتهى بكابوس لا نزال نعيش تبعاته كل يوم. ذلك اليوم ذهبت أنا إلى منزل آل سلام للتعزية بوفاة رشا سلام زوجة أستاذي السابق في الجامعة الأميركية الدكتور وليد الخالدي وكنت أعلم أن الرئيس سيأتي للتعزية بعد انتهاء زيارته لمجلس النواب. بعد حوالي العشر دقائق من وصولي وصل الرئيس. صدمتني رؤيته فقد كان وجهه أبيضاً وكأن الحياة قد غادرته. سلّم على الناس ولكن الرئيس لم يكن هناك كان في مكان آخر كان قلقاً ومشوّشاً. لم يجلس طويلاً وغادرنا جميعاً. عدت مع موكبه إلى المنزل. دخل مكتبه وطلب من دريان الزعتري، سكرتيره الخاص، أن يُحضر له نصّ الاستقالة الذي كان قد كتبه سلفاً. جلس إلى مكتبه وأخذ القلم وبدأ بتصحيح النصّ والإضافة إليه وقرأه عالياً. اعترض بعض من كان موجوداً على عبارة"أستودع الله لبنان وشعبه الحبيب". قالوا إن هذا سوف يخيف الناس وسوف يعتقدون أنه يستقيل من العمل السياسي ومن لبنان بشكل نهائي. ولكن الرئيس أصرّ على إبقاء الجملة. اتصل بالرئيس لحود وقال له"أرغب في رؤيتك فخامة الرئيس"، ويبدو أن الرئيس سأله متى تريد المجيء؟ أجاب: الآن. حمل الرئيس الحريري الاستقالة بيده واستقلّ سيارته وصعد إلى بعبدا. كلنا كنا نعرف ماذا تعني هذه الاستقالة وماذا تعني الرسالة التي حملها إليه رئيس مجلس النواب الذي كان عاد من دمشق قبلها. جلسنا ننتظر الرئيس. خرجت إلى حديقة قصر قريطم، جلست على الدرج أتأمل الورود التي أمر الرئيس الحريري في الربيع بزرعها في الحديقة لأنها وردته المفضلة. إنها الوردة الجورية الزهرية اللون العطِرة. كان دائماً يضع واحدة منها في سيارته. قطفت وردة منها وذهبت إلى مكتبه حيث صديق الرئيس وأحد المقرّبين إليه الوزير باسم السبع وقلت له رجاءً أن تقدّم هذه الزهرة إلى الرئيس فور عودته وتقول له مبروك. بعد قليل، عاد الرئيس، كان يبتسم مثل عادته حتى في أحلك الظروف وأصعب اللحظات، كانت ابتسامة ارتياح ولكن فيها مسحة مرارة لم يستطع أن يخفيها حتى داخل منزله. تقدّم الوزير السبع منه وقدّم له الزهرة وقال له مبروك. ابتسم وابتسمنا جميعاً ولكن منذ تلك اللحظة ازداد خوفنا على دولة الرئيس. لقد دخلنا عصر خوف جديد لم نشهده من قبل. إن الأمر الآن مختلف جداً عن 1998 عندما استقال الرئيس أول مرة، هذه المرة كان هناك شعور بنهائية الأمور ووصولها إلى آخر الطريق. انتهى زمن التسويات. هناك من قرّر خروج الرئيس الحريري النهائي الآن ولم نعد نستطيع أن نقدّم له سوى وردته المفضلة التي أحبها الرئيس كثيراً دون أن يعلم اسمها بالإنكليزية: وردة دمشق. مستشارة الشؤون الخارجية للرئيس الشهيد رفيق الحريري.