استعادت أوروبا ذكرى تحرير معتقل اوشفيتز- بيركناو بعد مضي 60 عاماً على دخول الجيش الأحمر معسكر الموت على أرض بولندا. ونظمت، على مدى أيام ثلاثة، اوسع استذكار لما جرى في معتقلات الإبادة التي زرعها النازيون والرايخ الألماني. أقامت النازية معسكرات الاعتقال باكراً قبل بدء الحرب العالمية الثانية، وزجّت فيها أولاً من اعتبرتهم خطراً على أمن مجتمعها من أعدائها السياسيين. نال اليساريون منهم حصة الأسد بدءاً من الحملة التي أعقبت حريق الرايختاغ المفتعل. وتبع ذلك الزج بأقوام في مصيدة المعتقلات، من يهود وغجر أقليات"دنيا"اختلطوا بالأسرى من ساحات القتال في أوروبا، والشرقية منها على وجه العموم. وأخيراً أضافت آلة الدمار الحاقدة مأثرة معسكرات العمل حيث مارس نظام السخرة العشرية ابشع مظاهر مصادرة الحرية والتأديب والعمل الإجباري في حق مئات آلاف العمال المختطفين من البلدان المنكوبة بالاحتلال. ستة عقود مضت على اكتشاف هول المأساة الإنسانية العميقة. والمرجح أن الذكرى الستين ستكون آخر مناسبة يُشارك فيها الناجون من معسكرات الموت، باستثناء نفرٌ قليل من معمّرين كانوا مجرد أطفال عام 1945. والحال، ان الذكرى انتظمت حول عدم النسيان كي لا تتجدد المأساة أبداً، واعتبار الوقوف في أوشفيتز شهادة عمق المرارة وقسماً على إحاطة الأجيال المقبلة بقسوة الجريمة التاريخية وقدرة البشر على ارتكاب اللامعقول والتنكر لأبسط قواعد السلوك واحترام الآخر في ذاته. والمغزى ان النازية حطمت الإنسان في أغلى ما يملك، ودمرت قيمته في الحياة والممات. أوقع الهوس النازي ونزعته الدموية عشرات الملايين من الضحايا، جنوداً ومدنيين أبرياء، تصدر الاتحاد السوفياتي القائمة آنذاك بما يربو على 22 مليون قتيل، وتبعته بولندا ويوغوسلافيا وسائر شعوب أوروبا بأعداد متفاوتة. وألحق بشعب المانيا خسارة ماحقة أودتْ بعشرة ملايين من أبنائه، فضلاً عن الدمار الشامل المنشور على ارضها. وطوال تلك المرحلة العصيبة، احتضنَ العالم العربي بمشرقهِ ومغربه، اليهود وسائر الأقليات، وانخرط العديد من أبنائه طوعاً في مقاومة الفاشية وتحطيم آلتها العسكرية، وكان لهم الدور الصدامي الأهم في معارك تحرير إيطاليا ومن ثم فرنسا، وصولاً إلى قلب الرايخ والقتال على أرض ألمانيا. جرى ذلك تحديداً إثر ثورة فلسطين عام 1936، وفي وقت بلغ الصراع مع الصهيونية أوجّه على أبواب الحرب العالمية. لذا، ومن باب الأمانة، حق للعربي أن يُفاخر بموقف لا غبار عليه، ارتقى لمصاف الدفاع عن حرية الشعوب وقيم الإنسانية جمعاء. وحيث حلت بفلسطين النكبة على يد الصهيونية، ساورَهُ نوع من الخفاء والاضطراب في العودة إلى ذلك الماضي، ومشاركة العالم في المصارحة والمجاهرة بحقائق التاريخ غير البعيد، حيث لا ملامة على أفعاله، وهي بمجملها صفحة مضيئة له لا عليه. يتملك الحذر العرب، وهم الضحية اليوم، من ملامسة موضوع المحرقة على رغم براءتهم المطلقة منه ومحاربة صانعيه، ويعتريهم حياء دفين حين تطرح حقيقة الإبادة والاعتراف بحدوثها وحجمها ومأساتها، مخافة تبرئة الجلاد من أفعاله اليومية في جسد فلسطين. وفي ذلك أشدّ الخطأ وخلط للأدوار، فكأنما خجل الضحية يضعها في موقع المسؤول عما أصاب اليهود من مآسٍ فيما لا تعوزها البراءة، وكأنها تنحني او تخضع لمقولة أن إسرائيل هي الرد على همجية النازية وما صنعته أيديها من محرقة وتنكيل. فأسبقية المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين زمنياً لا تقبل الجدل، وهي تعود لعقود قبل قيام الرايخ والفاشية في ألمانيا. في الواقع، تطرح على مجتمعاتنا وضمائرنا، سلسلة من الأسئلة تستدعي اجابات عند هذا المفصل بالذات حيث تتوافق ذكرى المحرقة مع بشائر واحتمال بزوغ الدولة الفلسطينية، اي فك أسر الشعب الفلسطيني وخروجه من المأساة. والأجدر ألا يعتري الموقف الخجل من إعلان الحقائق وتصويب التاريخ. فأية فائدة يجنيها العرب من إنكار عملية الإبادة المنظمة التي أعملتها النازية بحق اليهود او الإنقاص من شأنها اوالتشكيك بها؟ وأي مردود يُعوّل عليه في غض الطرف عن ذكرى معسكرات الموت والمحرقة؟ أوليس الأجدى ان نتصدّى لمحاولات تغليف حاضر الآلة العسكرية الإسرائيلية ببراءة المعتقلين والمبعدين اليهود العزل في المعتقلات النازية، وان نجد بعض من مقارنة بين أبناء فلسطين وأطفال اليهود في الأسر واشتراكهم في صفة الضحية بفارق المكان والزمان! ولما لا ننضم بطواعية وجرأة الى المجتمع الدولي في إدانة الجريمة المرتكبة بحق اليهود وسواهم، لنتوسع بها إلى إدانة كل ظلم، كائناً من قام به أو مهّد له أو سكت عن نتائجه؟ تلك أسئلة ومواقف مُستحبّة وواجبة للمشاركة الصادقة في المعاناة، اليوم كما البارحة، لا ينال منها ضجيج من مهرَ إسرائيل تأييده غير المشروط وجعل من مؤازرتها شرطاً لمقاومة اللاسامية والتمييز، بغير حدود، لاحتواء النقمة على أفعال قادتها. وهي مقدمة لصوغ رؤية متكاملة في التعاطي مع المأساة الفلسطينية الحاضرة، تضع العالم أمام المسؤولية انطلاقاً من عدم جواز الانتقائية وتسهم في بلورة العديد من التساؤلات المتعلقة بواقعنا الراهن من عرب ويهود على السواء. فالمسألة أبعد مما يشتهي اولئك العاملون على تجريم ضمير العالم باستمرار، والمسيحيّ منه بخاصة، تحت شتى المسوغات بغية استثارة الشفقة واستحضار أخطار مزعومة وتطويع الارادات. فعلى هذه القاعدة الجامعة انسانياً والرافضة لكل منطق العداء للسامية ولمغازلته او مسايرتهُ، نستطيع أن نصرخ آلامنا، ونستخرج المكبوت والمكتوم مما يُخفيه العالم من مشاعر إزاء ما آل إليه الصراع في المنطقة. هكذا، بمشاركة الذاكرة الجمعية، نحيي الحاضر ونعتقه من شوائب الصورة المغلوطة ونعيد الحقائق المجردة إلى نصابها. ضحية الأمس واضحة لا لُبْس او تأويل في تعريفها، فمن الضحية اليوم؟ تلك هي المسألة بعد ازالة كاهل الخوف من التاريخ. واستطراداً فالعالم مدعو إلى التأمل في مدى حقيقة الربط بين المحرقة والدفاع عن عدوانية سياسة إسرائيل، ولمقارنة بنية المجتمع الإسرائيلي ومدى تطابق ذلك مع استيعاب الناجين من المحرقة، في ضوء ما قامت به إسرائيل من استقدام شريحة عريضة من روسيا، او من أثيوبيا او من بلدان نعمت وتنعم بقوانين تنبذ معاداة السامية، في حين تتذرّع بعدم القدرة على استيعاب الفلسطينيين المشرّدين عن ديارهم ولو على قاعدة لمّ الشمل. فحين نذكر صراحة ان ما حلَّ بأطفال اليهود على يد النازية وتصفيتهم فاق كل تصور واختلف نوعاً عما لحق بسائر المعتقلين وشعوبهم، فشكل علامة فارقة من التدمير العرقي خارج كل منطق انساني، عندئذٍ نكون بحل من الدعاية الصهيونية التي تصوّر إرادتنا بأنها سعي للقتل العشوائي العبثي، ونعطي لقضيتنا بعدها الاخلاقي الكامل. وعندما نلفظ دعوات المشككين بوجود معسكرات الاعتقال لنفي جريمة المحرقة، ونقر من دون حرج بأن العنصر اليهودي تعرض لمحاولة ابادة شاملة مع الغجر، نعيد وصل التاريخ بحقيقة مأساتنا كوننا ضحيته المعاصرة وأن العبرة في واقع معاناة الفلسطينيين، المعطى الأساسي الأهم، لا في النيات"الطيبة"القائلة بتعويض مأساة عاشتها أوروبا على حساب شعب مقهور. فما من ظلم لغير مستحق عالجَ ظلماً وقع على بريء، وما من مناعة حضارية أخلاقية خاصة بجماعة بالذات على مدى العصور الا بمنظار عرقي محض على نقيض ما أراده الناجون"وما من معصوم عن الخطيئة والخطأ مهما كانت معاناته السابقة. فكم من أيديولوجية رمت للصلاح وسقطت في المحظور على أرض الواقع، وكم من منظومة فكرية نبيلة انحرفت عن غاياتها الأساسية فأفقدت أصحابها البصيرة ومبادئ العدل والتعايش والمساواة. فالحكم على الأمور بمعيار الغلوّ والإطلاق قلما أسس لصدق القول والفعل في الحرب والسلم على السواء. من هنا، وعلى رغم عمق عدالة القضية الفلسطينية منذ نشوئها وقسوة المظالم التي لحقت بشعبها وبالعالم العربي على امتداد أكثر من نصف قرن بعامل الحروب والاحتلال، فان المساواة بين القمع الإسرائيلي، حتى بصيغة البطش الشاروني، وعمليات الإبادة الجماعية على يد النازيين، والمماهاة بين غايات ونتائج النزعتين، تفتقر إلى الموضوعية التاريخية وتقفل الباب بأحكام على كل حل ويلحق الضرر بالمقاومة الفلسطينية وصورتها بمختلف أشكالها، على بسالتها. وفي هذا السياق، فإن قذف الإسرائيليين نمطيّاً بالعنصرية، واعتبار تلك صفة ملازمة نابعة من انتمائهم الديني، إنما يُجافي حقيقة مجتمعية أفرزت دعاة تصالح وسلام، إلى جانب نافخي طبول الحرب ويعيدنا إلى مربع الكراهية المتبادلة ومن حيث لا ندري إلى منطق تبرير الفاجعة الاستثنائية التي حلت باليهود والكارثة التي شكلها فكر النازيين بالنسبة للعالم أجمع. ولا نخال أن الفلسطينيين والعرب، بتاريخهم القديم والحديث، وقضيتهم العادلة بكل المعاني، وفوق كل الشبهات، في حاجة إلى استحضار واستخدام مغالطات وتغييب حقائق مآس جرت بمعزل عن ارادتهم وثقافتهم، لإعلاء شأن قضيتهم وصحة مرادها وما تحمله، في عالم اليوم، من معان إنسانية وصدقية أخلاقية، أو البحث عن مبررات وتزييفات نقيضة لسعيها وحقها التاريخي في الوجود والانبعاث دولة لأبنائها الصامدين. وفي مناسبة ذكرى المحرقة، قد يكون الموقف العربي القاطع في إدانتها، والصرخة بعدم نسيانها وتكرارها، عنواناً إضافياً ورصيداً لقضيتهم، ودعوة لرفع الظلم التاريخي ومعاناة الشعب الفلسطيني المستمرة، وإسماع العالم بأسره مجدداً ان المؤاساة والمساواة لا تنفصلان بل تتكاملان. * كاتب لبناني.