لم يخطئ، ولم يذهب بعيداً، من تنبأ بأن بعض معارك الإصلاح السياسي والديني في الشرق الأوسط سيسلك مسالك شديدة العنف. وقد يكون اغتيال الرئيس الحريري فقرة دموية من سلسلة فقرات في مسيرة فرض الإصلاح ومقاومة هذا الفرض، أولاها لم ندركها في حينها وآخرها في علم الغيب. ومع الاعتراف بضرورة عدم التسرع في إطلاق الأحكام عن مسؤولية طرف أو آخر عن عملية الاغتيال التي تمت بحرفية بالغة، إلا أنه ليس من قبيل إصدار الأحكام القول بأن اغتيال الحريري كان يستهدف جهود فرض الإصلاح السياسي على حكومات معينة في المنطقة، والقول في الوقت نفسه بأنه كان يستهدف محاولات المراوغة والتهرب من الإصلاح. فمثل هذه المحاولات أو غيرها من أعمال العنف رافقت انتفاضات التحول الديموقراطي التي جرت في دول شرق أوروبا وأميركا اللاتينية. واستطاعت أجهزة الإعلام العالمية، وبنجاح، إسدال الستار عليها، بينما أبرزت الجانب السلمي أو"الزهوري"في الانتفاضات كافة التي حدثت. هل كان اغتيال الرئيس الحريري استباقاً لانتفاضة وصل الإعداد لها إلى علم أطراف بعينها، أم أن الاغتيال كان تصعيداً متعمداً من جانب أطراف خافت على خطوات الإعداد للانتفاضة من التعثر أو التكاسل أو الارتداد ؟. لن تفيد إجابة متعجلة، ولن تأتي إجابة تشفي غليلاً. فالعالم لم يعرف بعد الجهة وراء تسميم يوتشينكو الرئيس الحالي لأوكرانيا، ولا الجهة وراء تسميم ياسر عرفات إن كان حقاً قد امتدت إليهما أيادٍ سممتهما. ولم نعرف كل ما كنا نود معرفته عن ظروف محاولات اغتيال أخرى سابقة، ولن نعرف كل ما نتمنى معرفته عن ظروف محاولات اغتيال أخرى في المستقبل ضمن الحروب الدائرة تحت أحد العناوين الثلاثة الآتية: الإرهاب والإصلاح والسلام في الشرق الأوسط. تشير المؤشرات كافة إلى أن طريق الإصلاح في هذه المنطقة من العالم لن تكون خالية من التعقيدات وربما كثير من العنف لأسباب ثلاثة على الأقل. أولها هذا الإصرار العنيد من جانب معظم النخب السياسية في المنطقة على أن لكل دولة، وللمنطقة بأسرها، خصوصياتها. يقال إن الوصفات الآتية من الخارج لن تنفع، وأن الضغط من الداخل لن يؤدي إلا إلى مزيد من تدهور الأوضاع. ويتبع هذا الإصرار إصرار آخر على أن التدرج البطيء في عمليات الإصلاح مضمون النتائج وقليل المخاطر. ويسوق أنصار التدرج وخصومه دليلاً يظنونه دامغاً على قوة حجتهما، وهو أن الإصلاح في المنطقة بدأ في الواقع منذ قرن وفي حالات معينة منذ قرنين. ويتبع الإصرارين إصرار ثالث. إذ يقال إن الإصلاح واجب ولكن بشرط عدم المس بالقمم السياسية باعتبارها الأكثر خبرة في الحكم، وأي إضعاف لها يرتد على عملية الإصلاح ويصيبها بالشلل وعندئذ تحل الفوضى بالمجتمع. أما السبب الثاني وراء الصعوبات التي تواجه عمليات الإصلاح وتدفع إلى سلوك مسالك العنف. فهو هذا الارتباط القوي بين الدين والسياسة في هذه المنطقة أكثر من ارتباطهما في أي منطقة أخرى. الدين في هذه المنطقة مكون أساسي، ومن العبث إنكار مكانته ودوره. ولكن أكدت بعض"التطورات الإصلاحية"التي جرى التبشير بها في الآونة الأخيرة أن أكثر العبث وأخطره يقع حين يستخدم دعاة الإصلاح وخصومه الدين في المعركة الدائرة بينهم. لقد تسبب جذب الدين من هنا وشده من هناك في رفع درجة حرارة التوترات الدينية في أكثر من بلد، وانفتحت على مصراعيها أبواب تحت عناوين العودة إلى الأصول في التاريخ، والعودة إلى النصوص، ومزايا الفيديرالية، وأخطار التعددية وفوائد التقسيم، وانفجر عنف الطائفة أو الأقلية لمقاومة عنف الدولة أو الأغلبية، يحدث هذا تحت مظلة"هجمة أميركية"تطرح للنقاش قضايا جوهرية في الدين، وثارت على الفور ردود فعل بدوافع وطنية واختلط بعضها بردود فعل بدوافع دينية، أو بردود فعل بدوافع سياسية معوقة للإصلاح أو أخرى دافعه له. السبب الثالث هو تعمد الولاياتالمتحدة الربط بين فرضين: فرض الإصلاح على حكومات الدول العربية وفرض تطبيع علاقات شعوب هذه الدول مع إسرائيل. إن الإصلاح في الدول العربية لا يعني في نظر الإدارة القائمة في واشنطن شيئاً إن لم تأت نتائجه في مصلحة الولاياتالمتحدة، وهو أمر منطقي من منطلق أن دولة عظمى لن تسعى لتغيير أنظمة حكم واقتصاد دول ومجتمعات إلا إذا كان هذا التغيير يصب في مصلحتها. يقول الرئيس بوش"ليس هناك معيار واحد للتحرك الديموقراطي، فالتحول الديموقراطي لابد من أن يعكس ثقافة كل دولة على حدة"، وهي إشارة صادقة ولكن الأهم من الصدق المفترض فيها أنها مريحة للسامعين في المنطقة. ولكن كان يمكن أن يكون أكثر أمانة لو قال"ليس هناك معيار واحد للتحول الديموقراطي، فالتحول الديموقراطي يجب أن يعكس مصالح الولاياتالمتحدة". إن أي نظام ديموقراطي في المنطقة لا يخدم مصالح مباشرة للولايات المتحدة لا يستحق الجهود الدولية وخصوصاً الأميركية، التي بذلت لإقامته أو تبذل لحمايته. ما مصلحة أميركا في وجود نظام ديمقراطي في دولة عربية لا يتبنى الدفاع عن السياسات الأميركية في العراق والسودان وسورية وإيران، وسياساتها تجاه كوريا وروسيا، ومواقفها الخلافية مع الاتحاد الأوروبي. ولا شيء تستفيده واشنطن من نظام ديمقراطي في فنزويلا ينادى بأفكار لا تتناسب وسياسات أميركا في أميركا اللاتينية. وما لزوم نظام ديموقراطي في دول عربية لا يستطيع أن يقدم إلى إسرائيل ما تحاول واشنطن فرضه عليه أو تنصحه بتقديمه ولا يستطيع تنفيذ ما تطليه إسرائيل؟ إن ما يطلبه شارون خلال الشهور الأخيرة، وما تفرضه الولاياتالمتحدة على دول عربية بعينها، وما يجري تقديمه لإسرائيل فعلاً بناء على هذا الطلب أو ذاك الفرض، يرسخ في نفوس العرب، معتدلين ومتطرفين، فكرة أن الإصلاح يرتبط بتحقيق مصالح إسرائيل. وأثار هذا الضغط المزدوج من جانب أميركا على حكومات العرب مفارقة مهمة. إذ بينما يزداد وضوحاً وعلانية الربط بين فرض الإصلاح وفرض واقع إسرائيلي جديد على الدول العربية، تنشط في الوقت نفسه الحملة التي تشنها قوى سياسية عربية من بينها قوى مناوئة للإصلاح عموماً أو للإصلاح من الخارج تحت شعار لا إصلاح إلا بعد استعادة الحقوق الفلسطينية أو بعد تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي. إن الربط المتعمد من جانب الولاياتالمتحدة بين الإصلاح وإسرائيل، أو الربط المتعمد من جانب خصوم الإصلاح بين الإصلاح والصراع العربي الإسرائيلي، كلاهما يزيد في تعقيدات مسيرة الإصلاح، وكلاهما يدفع نحو مزيد من العنف المصاحب لهذه المسيرة. في مصر مثلاً، اهتزت ثقة عدد كبير من دعاة الإصلاح عندما شعروا هم أنفسهم بشدة الضغوط الأميركية من أجل دفع مصر نحو أداء واجب "دغدغة" شارون وتدليل إسرائيل والاستجابة للعديد من طلبات إسرائيلية لم يحدث في مقابلها تغيير إيجابي جديد في السياسة الأميركية تجاه الصراع أو في السياسات الإسرائيلية. كان أكثر هذه الطلبات قبل نشوب معركة الإصلاح مرفوضاً سياسياً وإعلامياً. وهناك دول استجابت قبل مصر وأخرى تستجيب بعدها، ودول تبدو تصرفاتها كما لو كانت تستعد للاستجابة في انتظار أن تؤجل هذه الاستجابة تمدد الإصلاح ليمس دوائر القمم الحاكمة. كان أغرب ما قرأنا وسمعنا من كلام السياسيين ما جاء على لسان الرئيس بوش حين انتقد هؤلاء في الشرق الأوسط الذين"لا يحبون"إسرائيل، وجاء انتقاده أقرب إلى التهديد والوعيد. كان جديداً علينا هذا الفهم أو المدخل"الرومانسي"للصراعات الدولية. تشد الاهتمام ظاهرة ستعود بأقصى الضرر على الشعوب العربية إذا ترسخت أو انتشرت. إذ يبدو أن معركة الإصلاح الدائرة على أكثر من مستوى تسببت في حال عدم توازن، ولا أقول عدم إتزان، في عديد من الحكومات العربية، إذ صار بعض الحكومات يتصرف إزاء قضايا شتى، اقتصادية وسياسية، داخلية وخارجية، بدرجة أقل من الحكمة وأحياناً بدرجة أقل من الذكاء. يبرز هذا النوع من التصرفات بأشد وضوح ممكن في التعامل مع حالات الانشقاق الداخلي والمعارضة السياسية، وتبرز أكثر في معايير اختيار عناصر جديدة للحكم ونوعية التحالفات الداخلية أو الخارجية وهزال عمليات اتخاذ القرارات بل وتكلس مفاصلها في كثير من الأحيان. الحرص الزائد مسؤول ولا شك. مسؤول أيضاً التضاؤل المستمر في فرص تحقيق الانتصار في المعركة الدائرة ضد الإصلاح من الخارج، وخصوصاً وسط زخم الصور التي وفدت خلال الشهور الأخيرة من شوارع جورجيا وأوكرانيا وتخرج الآن من بيروت. وكانت التطورات اللبنانية فرصة لتأكيد أنه في ظل ظروف إقليمية ودولية مختلفة تتصرف الدول العربية بشكل مختلف حين تتعرض إحداها للتهديد. نذكر كيف انفعلت مصر في 1957 و1967 في مواجهة تهديد لسورية، ونرى كيف تتصرف، أو لا تتصرف، الآن، هي ودول عربية أخرى، وإيران كذلك. كاتب مصري.