لا تكفي التقارير، الاستخبارية ولا الإعلامية، عما يجري في الشارع اللبناني، من أجل ان يدرك المسؤولون في لبنان والقيمون على الوضع اللبناني والقيادة السورية، مدى عمق التحولات الحاصلة على الصعيد الشعبي. فهذه التقارير تنقل صورة. لكن الأصل هو الإحساس بمشاعر الناس العميقة. ويا حبذا لو يستطيع المسؤولون اللبنانيون والسوريون زيارة ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري في ساحة الشهداء ليتمكنوا من قياس مدى عمق مشاعر الناس. لأن ذلك يتيح لهم ان يتبينوا ان المشاعر، التي ترتبط عادة بالحدث، لا تلبث ان تتراجع بعد مدة من الزمن، لكن ما يجري في بيروت مختلف تماماً. فقد تحولت المشاعر الى واقع سياسي، ليس فقط من زاوية توحّد اللبنانيين حول استشهاد الحريري وضد السلطة والسياسة السورية، بل أبعد من ذلك. انهم يريدون بديلاً، وثمناً لغياب الحريري، من أجل تبديد مشاعرهم الغاضبة والقلقة، كي يتخلوا عن الغضب والقلق هذين. وواقع الأمر ان اللبنانيين عادوا الى حياتهم اليومية وإلى أعمالهم وروتينهم، لكن الكثير منهم لا يلبث ان يعود الى صورة الحريري، وعملية الاغتيال البشعة وإلى الفراغ الذي تركه شطب الرجل من المعادلة وأثره على حياتهم المستقبلية. والذين سبق ان زاروا الضريح، لا يلبثون ان يعودوا إليه في الليل. والذين لم يزوروه بعد يسعون الى بعض الطمأنينة، ولو الواهمة، بالحج إليه. كل هذا يدل ربما الى ان مشاعر الناس في لبنان المتحولة الى واقع سياسي، أكبر مما يدركه من هم في السلطة، وبالتالي أكبر من قدرتهم على استيعاب مفاعيلها وتنفيس الاحتقان الذي تتسبب به. وهي أكبر من قدرة تنظيمات وقوى المعارضة على تأطيرها وتنظيمها، فقد سبق هذا الواقع السياسي الشعبي امكانات المعارضين على صوغ التحول السياسي الذي لن تظهر نتائجه إلا بعد مخاض عسير. ان أخطر ما يمكن ان يخطر في بال السلطة هو ان تتعامل مع هذه المشاعر على جري القاعدة القائلة ان في إمكانها ان تقمع تجلياتها في التحركات اليومية التي تشهدها بيروت. فهو اسلوب لن تكون نتيجته سوى تأكيد تحول المشاعر الى واقع سياسي لا رد له. ولعل هذا ما دفع رئيس المجلس النيابي نبيه بري الى اعتماد سياسة تنفيس الاحتقان، ولو بدا ذلك نصراً للمعارضة على الموالاة. فهو من القلائل الذين اكتشفوا عمق آثار ما حصل. وقد يفكر من هم في السلطة في ما هو اسوأ من مواجهة المشاعر بالقمع، أي بافتعال صدامات هنا وهناك للذهاب بمشاعر الناس الى مكان آخر، ولخلق مناخ مغاير للسخط الذي يقود الى مطالب محددة، من أجل تقزيم تلك المطالب او إلغائها. مع دعوة الهيئات الاقتصادية الى الإقفال الاثنين، وانضمامها الى مطالب سياسية مثل تبني التحقيق الدولي باغتيال الحريري والإتيان بحكومة حيادية اصبح"الرأسمال الجبان"جزءاً من حركة شبه اجتماعية. فالهيئات الاقتصادية تخطت موقفها التقليدي الذي يدعو الى تجنب التصعيد السياسي لانعكاساته الاقتصادية السيئة، لاعتقادها بأن هذه الانعكاسات باتت قائمة ولا شيء يحول دون ان تدخل هي الحلبة السياسية كمقدمة لتعويض ما يمكن تعويضه.