بغض النظر عن الطرف الذي ارتكب الجريمة الشنعاء في اغتيال الشهيد رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني السابق، والزعيم السني الواسع النفوذ لبنانياً، ورجل الدولة المؤثر عربياً ودولياً، فان استشهاده سيخلق تداعيات كبرى وطويلة الأمد تتعدى حدود لبنان الذي يشهد اولى مسارحها. فالمصاب جلل، والحدث خطير على اكثر من مستوى وصعيد، وسيفتح ابواباً للصراع في لبنان والمنطقة قد تؤدي الى تغيير خرائط ومعادلات. ذلك أن خرائط المنطقة ومعادلاتها تمر بمفترق طرق بسبب تعاظم التحديات التي افتتحتها حرب افغانستان ثم حرب شارون بوش على الفلسطينيين ثم العدوان على العراق واحتلاله. فمثل هذه الضربة الكبيرة النكراء التي وجهت الى الشهيد الحريري تصبّ الزيت على نار تلك التحديات والصراعات لتزيدها أواراً. الولاياتالمتحدة الاميركية والدولة العبرية الاتجاه الصهيوني العام تعلنان بلا غموض او مواربة، بأنهما في صدد إحداث تغييرات جذرية سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية في المنطقة التي يتم الإصرار على تسميتها ب"الشرق الاوسط الكبير"طمساً لسمتها العربية والاسلامية. بل مهرتا هذا الاعلان بالتطبيق العملي الذي ما زال مستعراً في العراق. ولهذا من المهم ان يلاحظ ان ثمة هجوماً مركّزاً على المنطقة عسكرياً وسياسياً وايديولوجياً، وحتى وجوداً وتكويناً، بما يمس الجغرافيا والهوية وموازين القوى الداخلية على مستوى كل دولة كما على المستوى الاقليمي. ولا مجال لاحد ان يجادل في هذه الحقيقة او يقلل من خطورتها، او ينسبها الى"نظرية المؤامرة"لأن متطرفي الادارة الاميركية جعلوا اهدافهم واضحة وأكدوها بالممارسة. والآن، اذا صح، كما دلّت زيارة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الاميركية، بأن مركز الضربة الاستراتيجية القادمة بعد العراق، ستكون ايران، وعلى التحديد انهاء علاقتها تماماً بالنووي، فان التمهيد الى ذلك يتطلّب نزع سلاح المقاومة، بقيادة"حزب الله"من لبنان، وذلك لما لهذه الخطوة من دور ضاغط سياسياً ومعنوياً لفرض الاستسلام على ايران، ولما لها من ضرورة في حالة اللجوء الى القوة العسكرية. فمن هذا الباب يرتفع الوجود السوري في لبنان الى اعلى الاجندة الاميركية. وذلك باعتبار ان المطلوب منه ان يقوم هو بمهمة نزع سلاح المقاومة. الامر الذي وجّه الضغوط الهائلة الى سورية لتختار بين امرين: اما القيام بهذه المهمة واما الخروج من لبنان. ولما رفضت سورية القيام بنزع سلاح المقاومة من جنوبلبنان انتقلت الضغوط لاحداث انقلاب داخلي لبناني على وجودها في لبنان، وذلك باستغلال ما امكن من مواقف داخلية معارضة، او مطالبة بتصحيح العلاقة السورية اللبنانية، واذا ما تحقق ذلك فستتحول الضغوط الاميركية على ما يمكن ان ينشأ من وضع لبناني من اجل محاصرة"حزب الله"مع دعم دولي قد يصل الى التدخل المباشر الاميركي الفرنسي او الاسرائيلي. الامر الذي سيؤكد ان المشكلة من وجهة النظر الاميركية مركزة، في اساسها، على نزع سلاح المقاومة من الجنوب اكثر من الوجود السوري، ما دام الهدف الاول للاستراتيجية الاميركية هو انهاء علاقة ايران بالنووي ولو للاغراض السلمية فقط. يجب ان يضاف الى هذا التقرير للموقف محاولة عزل سورية عربياً، لا سيما من جهة علاقتها بمصر والسعودية، وذلك من خلال شل أي دعم عربي لها في لبنان، وهي التي كانت منذ اتفاق الطائف تتمتع به، وهو ما ساعدها لتكون القوة الحاسمة في لبنان. وهنا لا بد من ملاحظة ان هناك ارتباطاً عربياً عاماً ازاء الهجمة الاميركية - الاسرائيلية، ليس في الموضوع اللبناني والسوري فحسب، وانما ايضاً في الموضوع الفلسطيني والسوداني والليبي والعراقي والخليجي عموماً. ولهذا فالمعادلة العربية اختلت لبنانياً، وعلى التحديد في دعمها لسورية، وان لم تصل الى الانقلاب عليها. ومن ثم يمكن ادراك خطورة التداعيات المترتبة على اغتيال الشهيد الحريري. فتغييبه على تلك الصورة، بسبب ما يمثله من حجم وشعبية وتأثير، احدث خللاً في المعادلة الداخلية التي كانت سائدة قبل ذلك، سواء بين الطوائف أم بين معارضة وموالاة، وذلك بدفع أوساط سنية واسعة الى مواقع المعارضة بعد ان كانت في حياته في موقع الوسط. ومن جهة ثانية، أدى هذا الاغتيال الآثم الى اخلال في المعادلة العربية لأن هناك دولاً رئيسية كانت تعتبره قريباً منها، إن لم تعتبر أمره يخصها حتى لو كان مستقلاً عنها. أما من جهة ثالثة، فقد صعّد الحدث في الموقفين الأميركي والفرنسي، ولو كل من موقع، لتشديد الهجوم على سورية وعلى رئاستي الدولة والحكومة في لبنان. وقد أخذ احتمال التدخل الخارجي السياسي والعسكري يلوح في الأفق القريب، وهو النتيجة المنطقية للقرار 1559 إذا أريد تنفيذه بعنصره الرئيسي وهو نزع اسلحة المقاومة من جنوبلبنان. فالتدخل العسكري الخارجي عند المنعطفات الكبرى كأنه من اقدار لبنان. ويكفي استعادة التدخل الاميركي في 1958 والاجتياح الاسرائيلي، ثم التدخل الاميركي والفرنسي في 1982. وهكذا جاء تغييب الشهيد الكبير رفيق الحريري، بهذه الطريقة الاجرامية كل اغتيال فردي ذو طبيعة اجرامية، وعلى طول الخط، ضد العهد برئاسة اميل لحود وضد سورية، وعلى التحديد ضد وجود المقاومة في جنوبلبنان. بل صب الحب، كل الحب، في طاحونة الاستراتيجية الاميركية - الاسرائيلية للمنطقة وليس للبنان فقط. فالذي فعلها يكون قد ضرب"ضربة معلم"سواء عن وعي أو من دون وعي، في ما ينتظر لبنان من اضطراب كبير كما بالنسبة الى المنطقة كلها. وبالمناسبة ان للاغتيال الفردي أضراره دائماً على الناس والشعب والأمة وليس على القوى الطامعة، وهو ما يتكرر في العراق يومياً، الأمر الذي يجب ان يصفى الحساب معه بما لا يحمل استثناءات في مطلق الاحوال.