ليس صعبا إطلاق عملية سلمية من النوع الذي أطلقته قمة شرم الشيخ في 8 شباط فبراير الجاري. لكن ما أصعب إحراز تقدم في غياب بعض أهم مقومات الحل السلمي، خصوصا في صراع من نوع الصراعات الاجتماعية الممتدة، أي التي تحدث بين جماعتين اجتماعيتين توارثتا الصراع على مدى أجيال، وليس بين بلدين أو جيشين على منطقة حدودية مثلا. والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الذي تعود جذوره إلى بدايات القرن العشرين، بدأ على هذا النحو على أرض فلسطين، ثم أخذ بعدا إقليميا طغى عليه لعدة عقود. لكنه عاد أخيرا إلى أصله وبات دور الدول العربية، التي كانت قد أخذته بين يديها لعدة عقود، مقصورا على السعي لتسهيل أو تعويق جهود تسويقه. وإذ عاد الصراع ثنائيا، ازدادت أهمية المجتمع في طرفيه الرئيسيين، وبصفة خاصة المجتمع الفلسطيني الذي كان منسياً وقت تصدرت دول"المواجهة"أو"الطوق"المشهد. لم يفقد المجتمع الإسرائيلي أهميته أبدا ودوره في الصراع بفعل النظام السياسي الذي يقوم على تداول السلطة عبر انتخابات دورية مفتوحة وحرة. أما المجتمع الفلسطيني فانتقل إلى منطقة خلفية بعيدة في مرحلة"قومية الصراع"ما بين الحربين الحزينتين في 1948 و1967. وإحدى المفارقات الكثيرة في تاريخ هذا الصراع أن احتلال الأرض التي بقيت في أيد عربية حتى حزيران يونيو 1967، هو الذي أعاد للمجتمع الفلسطيني دوره في الصراع وحقه في أن تكون له كلمة، أو كلمات، في إدارته وكيفية حله. وبرغم أن محاولات حدثت لاستعادة هذا الدور قبيل حرب 1967، عبر تأسيس منظمات أبرزها حركة"فتح"، ظلت تلك المنظمات ونشاطاتها السياسية والمسلحة مخنوقة على الحدود العربية مع إسرائيل حتى احتلال الضفة وغزة. ففي ظل هذا الاحتلال، وفي مواجهة سلطته وممارساتها الاستعمارية، تنامى دور المجتمع الفلسطيني في الصراع جزئيا عبر المقاومة المسلحة، وكليا من خلال المقاومة المدنية التي تتعدد وتتنوع أشكالها بدءا من تعزيز صمود الناس على أرضهم وبناء شبكات التضامن والتعاضد الاجتماعي، وصولا إلى النضالات الاحتجاجية من تظاهر واعتصام وإضراب، مرورا بمختلف أنواع مقاطعة المحتل ورفض التعامل معه كلما كان هذا ممكنا. كان الوعي المجتمعي العام في فلسطينالمحتلة عام 1967 أعلى من أن يمكن الاستحواذ عليه بسهولة. كما لم يكن الإحباط توطّن في مجتمع حديث عهد بالاحتلال. كان هذا المجتمع مقتنعا بقدرته على التحرر، فلم يكن في حاجة بعد إلى أي نوع من الانتقام العشوائي من الإسرائيلي. فلا يركن إلى مثل هذا الانتقام إلا من اشتد عليه الإحباط وتراجع أمله في النصر. ولعل هذا كان أحد الأسباب التي دفعت الفصائل المسلحة إلى العمل عبر الحدود الأردنية واللبنانية وليس من قلب الأرض الفلسطينية. وبرغم فداحة الثمن الذي ترتب على المغامرة التي قادت إلى"أيلول الأسود"، وربما بسبب هذا الثمن، لم يطغ السلاح على دور المجتمع الفلسطيني في المقاومة إلا في السنوات الأخيرة. ولذلك لم يكن في إمكان الفصائل التي اشتد جموحها، ولجأت إلى ممارسات تدخل في نطاق الإرهاب مثل خطف الطائرات المدنية، إلا أن تتراجع. لم يكن السلاح هو"بطل"المقاومة الفلسطينية التي لم تتوقف في الضفة والقطاع، بل"الإنسان"الصامد. لم يكن ثمة تقديس للسلاح، أولاً لأداة بعينها من أدوات المقاومة. كان الهدف التحرر فقط هو المقدس. فلا تصبح الوسيلة هدفا بشكل أو بآخر إلا عندما يتبدد الأمل في بلوغ الهدف أو يكاد. ولذلك كان السلاح هامشيا في الانتفاضة الكبرى التي اندلعت في نهاية 1987 وأحدثت تغييرا جوهريا في مسار الصراع ومكانة قضية فلسطين على المستوى الإقليمي والعالمي. وهكذا لم يكن في تاريخ النضال الفلسطيني مثل هذا التقديس الذي يضفيه البعض الآن على المقاومة المسلحة. فهذه هي المرة الأولى التي نجد فيها مثل هذا الإصرار على اختزال ظاهرة المقاومة التي يمارسها مجتمع ضد الاحتلال في جزء صغير منها يتعلق بالعمليات العسكرية، وفي قسم محدود للغاية من هذا المجتمع لا يتجاوز آلافاً قليلة، او ربما مئات من الشبان الذين يمارسون هذه العمليات. ومع ذلك تعمل بعض الفصائل لفرض هذا الاختزال للمقاومة وذلك التقديس للسلاح على المجتمع الفلسطيني صاحب المصلحة الآن في إتاحة فرصة للعملية السلمية التي أطلقتها قمة شرم الشيخ. فالقوى الإسرائيلية المعادية للحل السلمي محشورة اليوم في زاوية ضيقة بعد"هجوم السلام"القوي الذي شنته القيادة الفلسطينية الجديدة. وهي لا تبدو قادرة على إعاقة العملية السلمية الجديدة بالرغم من التهديدات التي تطلقها ضد إخلاء مستوطنات قطاع غزة وشمال الضفة. وأي عصيان ينظمه مستوطنون وأنصارهم محكوم عليه بالفشل في تقويض العملية. ولكن أي عمل عنيف يقدم عليه فريق في المجتمع الفلسطيني يمكن أن يحقق"نجاحا باهراً"في القضاء على هذه العملية. وهذا هو التحدي الكبير الذي يواجه المجتمع الفلسطيني الآن، وليس فقط السلطة الوطنية وقيادتها. فالفصائل الفلسطينية، التي يمكن أن تجهز خلية مسلحة في إحداها خلال ساعات على جهود سلمية استغرقت أسابيع طويلة، هي من إفرازات هذا المجتمع. ولبعضها، خصوصا حركة"حماس"، جذور تبدو عميقة في قسم في هذا المجتمع في قطاع غزة بصفة خاصة على ما يتضح من نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة. غير أن تصويت بعض العشائر والعائلات لمصلحة"حماس"أو حركات راديكالية أخرى في انتخابات بلدية لا يعني بالضرورة التطابق مع مواقفها كافة. وتفيد مؤشرات قوية أن القسم الأكبر في المجتمع الفلسطيني يتطلع إلى الفرصة التي توفرها العملية السلمية الجديدة بعد أن أنهكه وأفقره استمرار القتال لأكثر من أربع سنوات. ولذلك ربما كان مفيدا نقل الحوار بين السلطة والفصائل من الغرف المغلقة إلى الفضاء الفلسطيني المفتوح عبر تنظيم حوارات محلية في المناطق المختلفة من ناحية، ونقل الحوار المركزي الرئيس عبر الفضائية الفلسطينية مع وضع شاشات كبيرة في الميادين العامة. لقد نجح بعض قادة فصيلين أو ثلاثة فصائل في احتكار الحديث باسم الشعب الفلسطيني وقضيته وثوابته، وربطوه بالمقاومة المسلحة التي حولوها إلى"تابو"لا يجوز الاقتراب منه إلا بإذن خاص منهم. وفي كل من هذه الفصائل آخرون أكثر موضوعية وحرصا على المصلحة الفلسطينية العليا، وبالتالي فهم أوفر استعدادا لحوار جاد حول موقف استراتيجي تجاه وقف إطلاق النار. ولكن صوت المتشددين المرتفع يُسكت المعتدلين في الفصائل الراديكالية نفسها. ولذلك فلا سبيل لتفاهم استراتيجي بين السلطة وهذه الفصائل ما لم يكن الحوار على مسمع من الرأي العام الفلسطيني. ولن يصمد أي وقف إطلاق نار أكثر من أسابيع قليلة ما لم يكن المجتمع الفلسطيني حاضرا ليس فقط ليشهد هذا الحوار وعليه، ولكن ليواصل دوره في المقاومة المدنية الواسعة التي تعزز مركز المفاوض. مقاومة مدنية تطلق حمامات السلام بدلا من الرصاص والمتفجرات، لكنها لا تلين أبدا في احتجاجاتها المنظمة ضد الممارسات الإسرائيلية وفي مقدمتها - الآن وحالا - الجدار الفاصل. فلا مقاتلين ولا انتحاريين يمكنهم فعل شيء لوقف بناء هذا الجدار. لكن المجتمع الفلسطيني يستطيع السعي إلى ذلك عبر تشكيل لجان شعبية واسعة في مناطق البناء وتنظيم مسيرات إليها في شكل موجات بشرية هادرة ترفع علم السلام ويتقدم متصدروها لمصافحة الإسرائيليين الذين يعملون في بناء الجدار ويطالبونهم بالتعاون في بناء علاقات سلمية طيبة بين الشعبين وهدم ما بني في جدار العزل والكراهية. في إمكان المجتمع الفلسطيني أن يفعل الكثير إذا استرد حيويته التي سلبه المسلحون إياها عندما استسلم إلي اسطورة أن أقل من ألفي مسلح هم خير من أكثر من مليوني فلسطيني. لقد فعلت الفصائل المسلحة كل ما في إمكانها أن تفعله على مدى أكثر من أربع سنوات ووصلت إلى طريق مسدود. وبات عليها أن تعيد الأمر إلى المجتمع الذي جمدت دوره طول هذه الفترة، وأن تعطي فرصة للعملية السلمية والمقاومة المدنية فيما تلتقط هي الأنفاس وتعيد ترتيب الصفوف. فربما يكون لها دور في مرحلة أخرى قادمة إذا فشلت هذه العملية أو لم تحرز تقدما كافيا. فلكل مرحلة متطلباتها.