المسعى التركي الرامي الى تحديث البلاد وفقاً للمعايير الأوروبية قوي وعميق، يجد دلالاته في التغيرات والإصلاحات التي شهدتها تركيا في السنوات الثلاث الماضية، وفي الالتزام الإيديولوجي للنخبة الحاكمة بأن تصبح تركيا جزءاً من اوروبا، ويجد سنده في إرث الأتاتوركية الضارب في النفوس بعد افول الامبراطورية العثمانية. فما دام تاريخ العالم عرف انتقالاً من الشرق نحو الغرب، على النحو الذي صوره هيغل، باعتبار ان اوروبا تمثل - بالنسبة إليه - نهاية التاريخ على نحو مطلق، تصورت حركة"تركيا الفتاة"ان في الإمكان اختراع هوية اوروبية غربية لتركيا، كي تركن بدورها الى نهاية التاريخ. لكن مسألة احتمال انضمام تركيا الى الاتحاد لم تعد تشغل فقط حكومات الدول الأعضاء الحالية، بل اضحت تشغل كذلك الرأي العام الأوروبي، وتستحوذ على قدر كبير من الجدل الدائر في وسائل الإعلام الأوروبية. وهنا تختلف الآراء اذ ينظر بعض الحكومات ايجاباً الى المسألة، فيما يعاملها بعضها الآخر بسلبية، فيما يتوزع الرأي العام بين السلبية والتردد وعدم الترحيب. ويطرح الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، في حقيقة الأمر، اشكاليات ذات طبيعة خاصة، تتعلق بالوزن الديموغرافي لتركيا وحالتها الاقتصادية وموقعها الجغرافي المميز. إذ انها تضم 70 مليون نسمة، وهو عدد يجعلها في حال انضمامها الى الاتحاد الدولة الأكثر وزناً وتأثيراً مستقبلياً في المؤسسات التشريعية الأوروبية، التي تحدد حصص الدول الأعضاء فيها بحسب تعداد سكانها، اضافة الى ان الاقتصاد التركي هو الأقل نمواً بين اقتصادات الدول الأعضاء. ويزيد موقع تركيا الجغرافي المعتمد بحسب التصنيف الجغرافي التقليدي من سيولة خريطة اوروبا، نظراً الى ان القسم الأعظم من اراضيها يقع خارج القارة الأوروبية، الأمر الذي يكسب مفهوم اوروبا ذاته مركباً جديداً، ويعطيه معنى جديداً كذلك، عبر تحوله الى ناد يتم الانضمام إليه وفق شروط سياسية محددة، وكل من يستوفيها يمكنه ان يدخل النادي الأوروبي. بدأ الاتحاد الأوروبي بست دول، وهو يختلف اليوم تمام الاختلاف، في التعريف والخصائص والمكونات، إذ بلغ مجموع دوله 25، ومرشح لأن يصبح بعد عامين فقط 27 دولة، بعد انضمام كل من رومانيا وبلغاريا. لكن الطريق امام انضمام تركيا طويلة وشاقة، إذ يجب عليها ان تنتظر 15 سنة على الأقل، وإذا تمكنت من تلبية كل متطلبات"معايير كوبنهاغن"التي اتفق عليها الأوروبيون، فإن على الأسرة الأوروبية ان ترحب بها، خصوصاً ان المعايير السياسية تتمحور حول وجود مؤسسات ديموقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والمعايير الاقتصادية تنهض على تبني اقتصاد السوق، والقدرة على تحمل متطلبات المنافسة وتقلبات الأسواق الأوروبية، اضافة الى احترام المكاسب الشعبية والجماعية الأوروبية المفصلة ضمن القواعد الموضوعة أوروبياً. عمل الأتراك على القيام بتحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة بغية الوصول الى المعايير الأوروبية، وساعدتهم في ذلك قيادة من المفكرين والمثقفين حملت راية الأوربة، اضافة الى مجتمع الأعمال التركي ومنظمات غير حكومية نشطة وسياسيين ملتزمين. بمعنى ما، حمل المجتمع المدني التركي مشروع الأوربة على عاتقه بعدما كانت الدولة اطلقته، وذلك مع نضوج رأي مدني عام، بعدما عانى الأتراك في تسعينات القرن المنصرم من حرب اهلية وأزمات اقتصادية، ومن فساد استشرى في مؤسسات الدولة، ومن إفلاس الأحزاب السياسية وانهيار التوافق المجتمعي. ووصل الرأي العام التركي الى قناعة تطالب بتوسيع منطقة السلام التابعة للاتحاد الأوروبي كي تشمل تركيا ايضاً. وللمرة الأولى في التاريخ، اكتسب المشروع الأوروبي قاعدة شعبية راسخة، الأمر الذي يقدم الدليل على نضج مشروع الأوربة في تركيا. لكن المفارق في الأمر ان القوة المحرّكة السياسية وراء عمليات الإصلاح الجديدة كان حزباً سياسياً ذا قاعدة اسلامية استطاع تحديد السياسة الإسلامية لقاعدته بطريقة تنسجم مع المبادئ الديموقراطية الليبرالية، وأصبح اقرب حزب"ديموقراطي محافظ". وجاء فوزه بانتخابات 2002 كممثل عن طبقات رجال الأعمال الصاعدة في الأقاليم وبعد ان لقي استحساناً لدى القاعدة الانتخابية التي تقطن حول المدن الكبرى. ثم طبّق بحزم برنامج الاستقرار الذي اعده صندوق النقد الدولي، كما نفذ الإصلاحات السياسية التي طالب بها الاتحاد الأوروبي، لكن ترسيخ موقعه السياسي جاء نتيجة الاستمرار في توسيع المساحة الديموقراطية في البلاد. لا شك في ان هناك من يعتبر - في بلداننا العربية وخارجها - ان تركيا باعت نفسها، وضحّت بروحها، عندما اعلنت رغبتها في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، لكن عضوية تركيا في الأسرة الأوروبية، إن حصلت، امر له دلالات عدة، وسيتم عبر رحلة طويلة، تبلغ وصول تركيا الى نظام ديموقراطي ليبرالي، يشكل ضمانة لوحدة البلد وازدهاره، وهو امر نتمنى ان يحدث في بلداننا العربية. فالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، ترتكز على موجبات تعاقدية متبادلة، وعلى روابط اقتصادية متنوعة، تسهم في بناء قدرة البلد على الاندماج في الاقتصاد العالمي والتنافس في الأسواق العالمية من خلال نوعية العمل والإنتاج. كما تسهم في دفع البلاد نحو التغيير والانسجام مع المبادئ الديموقراطية ومأسسة دولة القانون. وعندما يلبي اي بلد عربي، وليكن سورية مثلاً، المعايير الديموقراطية الأوروبية، سيتمكن من ان يصبح بلداً قوياً بشعبه لا بسلطته وأجهزة امنه. وسيقدم انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي دليلاً على انه لم يعد نادياً مسيحياً مغلقاً على نفسه، كما يقول بعضهم. لذلك تطرح الطريق المؤدية الى انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي على النخب السياسية والفكرية والثقافية العربية إمكان قراءتها والإفادة منها، بالقدر الذي يساعد على ضبط المشترك في التجربة وظروفها التاريخية. كاتب سوري.