"لاقط طائرة الورق" هي رواية خالد حسيني الأولى. ولد حسيني في أفغانستان وهو طبيب يعيش في كاليفورنيا في الولاياتالمتحدة منذ 1980. وقد نالت روايته هذه إعجاب النقاد والكتاب في أميركا وبريطانيا على السواء. إنها قصة صداقة لا مثيل لها، وحب وإخلاص لا حدّ لهما، حب خادم صغير من الهزارة، هو حسن، لابن سيده البشتوني أمير. إلا أن هذا الأخير قابل الحب والإخلاص بالخيانة والكذب والجبن، محطماً بذلك حياة حسن ووالده علي، وقاضياً حياته معذب الضمير، لا يعرف الراحة والسعادة نهاراً أو ليلاً. بطل الرواية وراويها هو أمير، ولكن الذي يهيمن عليها هو حسن، خادمه الصغير الذي كان من الهزارة الشيعة. تبدأ الرواية بذكريات يستعيدها أمير من طفولته وأولى سني مراهقته حين كان في كابل، الابن الوحيد لرجل أعمال غني من البشتون فقد زوجته وهي تولّد أمير. وإذ كانت والدة حسن هربت بعد ولادته مباشرة نشأ الولدان يتيمي الأم، ولم يحل كون الواحد ابن السيد الغني والثاني ابن الخادم أن يصبحا رفيقين في النزهات والألعاب، لا يفترقان إلا حين يذهب أمير إلى المدرسة ويساعد حسن والده علي في الأشغال المنزلية. وكان أمير يقرأ لحسن من ملحمة الشاهنامة، ويخترع أحياناً قصصاً يدعي للخادم الأمي أنه يقرأها، فيصفق له حسن إعجاباً. ومن أكثر الذكريات برهاناً على حب حسن تلك الحادثة التي يسردها أمير. أحاط بهما يوماً ثلاثة زعران برئاسة عاصف الذي هدّد أمير لأنه يعاشر ولداً من الهزارة، وهجم عليه ليحطم عظام وجهه بكف حديد كان يحمله، فتناول حسن نقيفته وهدّد عاصف بفقء عينه بالحجر الذي في النقيفة إن هو لمس أمير. إزاء جدية حسن لم يجد عاصف مخرجاً إلا بالانسحاب. ولكنه توعدهما بالانتقام. وحصل ذلك يوم مباراة طائرات الورق التي فاز فيها أمير بعدما هزم كل الطائرات الأخرى، وركض حسن ليجلب الطائرة الأخيرة التي كانت وقعت، والتي كان الفوز بها يعدّ شرفاً، كي يقدّمها إلى أمير جائزة. بعد أن بحث أمير عن حسن طويلاً وجده في آخر زقاق ضيق، وقد أحاط به الزعران الثلاثة أنفسهم. طالبه عاصف بتسليم الطائرة وحين رفض حسن، هجم عليه واغتصبه. شاهد أمير ذلك، وانسحب من غير أن يراه أحد، ولكن إحساسه بالذنب بسبب جبنه وخيانته رفيقه الوفي نغص عليه صحوه ونومه إلى أن نوى التخلص من حسن لئلا يعود يراه أمامه. فوضع في كوخ حسن وعلي نقوداً وساعة وادعى لوالده أن حسن سرقها. لم يصدق الوالد، ولكن حين استنطق حسن قال الولد إنه سرقها فعلاً، فعرف أمير أنها مرة أخرى يخلصه فيها حسن، يضحي بنفسه كي يخلصه من عقاب والده على الكذب والنميمة. ومع أن الوالد سامحه قرّر علي وحسن ترك البيت الذي ولدا فيه، ولم تثنهما دموع الآغا وتوسلاته. وفي آذار مارس 1981 يهرب أمير ووالده من الحكم الشيوعي والاحتلال الروسي لأفغانستان وما رافقه من إرهاب واضطهاد، فيصف الرشوة التي يدفعها المهربون لحراس الحدود، كذب المهربين واستغلالهم اللاجئين. ومن باكستان يهاجر أمير ووالده إلى كاليفورنيا. فتنقلب حياة الرفاهية التي عرفاها في كابل إلى حياة فقر وشقاء: أخذ الوالد يعمل في محطة للمحروقات، عاجزاً عن فهم طريقة التعامل في أميركا، متحسراً على ما فقد من أصدقاء ومعارف ووطن جميل. فيما التحق أمير بالمدرسة. يقول أمير: "بالنسبة إلي كانت أميركا مكاناً لدفن ذكرياتي، بالنسبة الى بابا مكاناً لندب ذكرياته". ص112. فما أراد أمير دفنه وجريمته، أشباح الماضي وذكرياته وذنوبه. ومن أعمق الصفحات تأثيراً تلك التي يصف فيها سعادة الوالد بتخرج أمير في المدرسة الثانوية واحتفاله بهذا التخرج. وفيما يساعد أمير والده في شراء البضائع القديمة وبيعها في سوق البرغوت يقع بصره على الأفغانية ثريا طاهر، ابنة جنرال مهاجر، فيغرم بها. ويصاب والده بالسرطان، وقبل أن يموت يطلب منه أمير أن يخطب له ثريا. فتصارحه بأنها كانت هربت منذ أربع سنوات مع رجل أفغاني ثم استرجعها والدها، ويشعر أمير بالخجل لأنه لم يجرؤ على مصارحتها بذنبه هو. فيتزوجان، ويصف تقاليد الخطبة والأعراس الأفغانية التي مارسوها في أميركا أيضاً. فقط حين كان على فراش الموت يطلب الوالد من كنته أن تقرأ له القصص التي كان ابنه يكتبها، قصصاً كان يرفض قراءتها أو الاعتراف بها حين كان في كابل. كان أمير سجل نفسه في قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة، وزوجته في قسم التربية والتعليم، وتابع أمير كتابة القصص، وحين نُشرت روايته الأولى ولاقت نجاحاً غير منتظر اشتريا بيتاً جميلاً وفكرا في الإنجاب. إلا أنهما لم يتمكنا من ذلك، على رغم الفحوص والمعالجات التي خضعا لها. وشعر أمير أن حرمانهما الطفل كان عقاباً له على ما فعل في ماضيه. ومرت السنون، وتتابعت الروايات التي نشرها أمير، وإذ به يتسلم رسالة من رحيم خان، أعز أصدقاء والده. كان مريضاً في باكستان، والشخص الوحيد الذي كان يشجعه على الكتابة في صغره. فاستقل أمير الطائرة حالاً ليرى صديق الطفولة قبل أن يموت. وهنا تبدأ المرحلة الثالثة من حياة أمير. يخبره رحيم خان أنه ظل يسكن في بيت والد أمير في كابل ويحرسه، إلى أن عجز عن القيام بأعمال المنزل الكبير وحده، فبحث عن حسن في هزارة إلى أن وجده وكان تزوج، فأقنعه بالمجيء معه ليخدمه. خدمه حسن وزوجته بإخلاص ومحبة، وكان رزق صبياً سماه سهراب، وظهرت والدة حسن فجأة، تطلب منه السماح، عاشت معهم ترعى حفيدها حتى ماتت. ثم جاء الطالبان، وفي 1998 ذبحوا الهزاريين في مزار الشريف، وفرّ رحيم خان إلى باكستان حاملاً صورة حسن وابنه ورسالة كتبها حسن إلى أمير، يقص فيها مآسي حياتهم تحت حكم الطالبان. ثم أخبره رحيم أن الطالبان قتلوا حسن وزوجته لأنهما هزاريان ولأنهم أرادوا الاستيلاء على البيت الذي كانا يخدمان فيه. أما سهراب ففي ميتم في كابل. ويطلع رحيم أمير على أن خادمهم علي كان عقيماً وأن ابنه حسن كان في الحقيقة ابن والد أمير غير الشرعي، وعليه فهو أخوه من والده. ويقنعه رحيم بالذهاب إلى كابل للإتيان بالولد فيدخله ميتماً ممتازاً يرعاه زوجان أميركيان. يذهب أمير إلى كابل، فنتابع مغامراته والأخطار التي تعرض لها حتى كاد يقتل على يد أحد الطالبان، وتفاجئنا كيفية تخلصه من الموت الأكيد، ويعود بالولد إلى باكستان ليكتشف أن رحيم اختفى، وأن لا وجود للزوجين الأميركيين ولا للميتم. فلا يجد حلاً غير أخذ الولد وتبنيه في أميركا. ولكنه يجابه صعوبات قانونية وإجرائية، وحين يقترح على الولد إدخاله ميتماً إلى أن يتمكن من حل هذه المشكلات، يحاول الولد الانتحار، فيُنقذ وهو على آخر رمق. وتنجح ثريا في إيجاد وسيلة لإدخاله الولاياتالمتحدة، فيسافران، ولكن الولد الذي اصطحبه أمير أصبح ولداً عاجزاً عن الكلام، ولداً قتل الحياة فيه حنينه إلى ماضيه الذي ضاع إلى الأبد. تيأس ثريا من الولد، أما أمير فلا يستسلم، وفي مباراة للطائرات الورقية يبتاع طائرة لسهراب، يطيرها معه، يراها تنتصر على الطائرات الأخرى، ثم يركض أمير وراء آخر طائرة وقعت، تماماً كما فعل حسن في طفولتهما، فيرى شبح ابتسامة على ثغر الولد، شبح ابتسامة، ولكنها كانت كافية لإعطائه أملاً بأنه سيتغير. فنحس أن تفاني حسن في حبه لأمير كافأه عليه أمير من خلال ابنه، ولو بعد سنين. ولا تغفل هذه الرواية الرائعة التاريخ الذي رافق أحداثها: اضطهاد البشتون للهزاريين وقتلهم، طردهم من أراضيهم وإحراق منازلهم وبيع نسائهم، لأن البشتون من السنّة، فيما كان سكان الهزارة من الشيعة. وفي الرواية كلها إشارات كثيرة إلى احتقار البشتون للهزاريين. فعلى رغم الصلة الوثيقة بين أمير وحسن لم يحس أمير يوماً أن حسن صديقه لأن أمير من البشتون وحسن من الهزارة "ومن المستحيل التغلب على التاريخ أو على الدين." ص22. وظل حسن أمياً كغالبية الهزاريين لأن البشتون أمثال أمير ووالده لم يشعروا أن الخدم بحاجة إلى معرفة القراءة والكتابة. ثم يصف الكاتب بلسان أمير الانقلاب الذي أطاح الملك في 1978 ثم الاحتلال الروسي في 1979. وبعد ذلك حكم المجاهدين، فالطالبان وما نجم عنه من دمار وفقر وقتل وحشي وإجرام. ويصف بدقة تثير الغضب والاشمئزاز اغتصاب الطالبان للنساء والأولاد، من الذكور والإناث، ورجمهم بعد ذلك من يتهمونهم بالزنى ص234-237. وفي الرواية، بعد، صورة للمجتمع الأفغاني قبل مجيء الطالبان: المباريات في حرب طائرات الورق، تلوين البيض في الأعياد، قصور الأغنياء وحفلاتهم، ملابسهم ومأكولاتهم، الكلمات العربية الكثيرة في كلامهم تشكّر، عيد مبارك، مريض، خالة، مفتخر، إلخ. ولعل من أجمل ما في الرواية وصف النفسيات. مثلاً، نفسية الطفل أمير اليتيم الأم الذي كان يريد والده لنفسه فقط، يغار من حسن إذا أظهر الوالد إعجاباً به، إذا اشترى له الوالد طيارة من ورق كبيرة ومثلها لحسن يتمنى أمير لو أنه لم يفعل، لو أنه ظل وحده مفضلاً لدى والده. وحين انشغل عنه والده ليل نهار بالميتم الذي تبرع ببنائه تمنى أمير أن يكون اليتامى قد ماتوا جميعاً مع أهلهم لئلا يحرم وجود والده معه. وظل يشعر بذنب أنه سبب وفاة أمه حين ولدته وأن والده يكرهه من أجل ذلك. ولكن الرواية تصور ببراعة تطور العلاقة بين الولد وأبيه حين أصبحا في أميركا، يعانيان الشقاء والحرمان، يتعاونان، يضحي كل منهما من أجل الآخر، ويحاول التخفيف من عنائه، فكأن الشقاء كان السبيل إلى إظهار وجههما الإنساني. وقد تكون أروع أوصافه تلك التي تصور عذاب أمير بعدما خان حسن وتركه يُغتصب من أجله هو، متجاهلاً ما حدث، كاذباً، عاجزاً عن الاعتراف بذنبه وكذبه، وعاجزاً، في الوقت نفسه، عن النسيان والراحة، ويزيد من عذاب ضميره ما يراه من إخلاص حسن وإصراره على خدمته بمحبة ووفاء ص67-81. يصوغ خالد حسيني ذلك كله في قالب قصصي ممتع ومشوّق. مثلاً، حين رأى أمير عاصف والزعران يحشرون حسن في زاوية الزقاق يطالبونه بتسليم الطيارة، قطع الكاتب متابعة الأحداث ليصف مشاهدة أمير ذبح الخروف في عيد الأضحى، وإحساسه آنذاك، ليعود بعد ذلك إلى رفض حسن تسليم الطيارة، ثم هجوم عاصف عليه واغتصابه، فيفهم القارئ المقارنة التي يقيمها الكاتب بين أضحية العيد وأضحية الأزعر المتوحش. وحين يقول إن حسن الذي عاش منذ طفولته مبتسماً فقد ابتسامته بعدما شفي من الجراحة التي أجريت لترميم شفته الشرماء، يتساءل القارئ: لماذا فقدها؟ وكيف؟ ولا يأتيه الجواب إلا بعد عشرات الصفحات. وحين يعود أمير إلى كابل ليأخذ سهراب ابن حسن، يجد أن احد الطالبان كان أخذه من الميتم. نتساءل: لماذا؟ إلى أين؟ ونتابع بشغف خلال عشرات الصفحات سعي أمير قبل أن نعرف أين الولد، وبعد ذلك، كيف أخذه أمير. ومن أجمل ما في الكتاب أسلوبه. فحين يعجز أمير عن أن يتذكر بعض التفاصيل يقول: "يستطيع الزمن أن يكون جشعاً- أحياناً يسرق لنفسه كل التفاصيل". ص188. أو يصف أمير حبه لوطنه حين عاد إليه بعد سنين فيقول: "تحت شعاع الهلال شعرت بأفغانستان تدندن تحت رجلي. لعل أفغانستان أيضاً لم تنسَني". ص211.