لا شك في أن اختيار وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس باريس، من بين عواصم تسع دول تجول فيها، للادلاء بخطاب عن توجهات إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الثانية، يمثل خطوة ذات طابع رمزي مؤكد. ورايس التي كانت عازمة في الأمس القريب على معاقبة فرنسا على تزعمها جبهة الدول المعارضة للحرب على العراق، جاءت لتقول للفرنسيين والأوروبيين إن الشراكة الأطلسية"ينبغي أن تشهد فصلاً جديدا"، وان"التاريخ سيحاسبنا ليس على خلافاتنا وإنما على ما انجزناه معاً". وأكدت أن بلادها مستعدة ل"العمل مع أوروبا"، وأن على الأخيرة أن تبدي استعداداً مماثلاً للعمل على الولاياتالمتحدة، لتحقيق مهمة"تعميم الحرية"في العالم، وهو شعار لا يمكن لأي ديموقراطية أن تعترض عليه من حيث المبدأ. ويستنتج من كلام رايس أن بوش يضع في طليعة أولويات ولايته الثانية، اصلاح ما تحطم بينه وبين"القارة العجوز"عموماً، وبينه وبين فرنسا تحديداً، لأن المهمات المطلوبة منه في هذه المرحلة تجعله بحاجة إلى الدعم الأوروبي والفرنسي. وفيما أحاطت فرنسا ضيفتها الأميركية بقدر فائق من الحفاوة والترحيب من خلال الإعداد لزيارتها والتفاصيل التي واكبتها، قوّمت مصادر فرنسية مطلعة بنوع من الحذر طبيعة المرحلة المقبلة من العلاقات الفرنسية - الأميركية. وقالت المصادر إن السؤال الحقيقي المطروح على هذا الصعيد يتناول الذهنية التي ستعتمد في التعامل مع الفروقات أو التباين الذي سيبرز بين الأميركيين والفرنسيين، وما إذا كانت ستتحول إلى عناصر مواجهة بين الطرفين، أم إلى عناصر حوار تسمح بالتوصل إلى موقف مشترك. ورأت المصادر ان الانطباع الذي أرادت رايس اعطاءه هو أن الخلافات في الرأي ستعتبر بمثابة ظواهر شرعية لا بد من التحاور بشأنها، ومثل هذا الموقف يدعو للارتياح، مقارنة مع الموقف القائل إن أي تمايز عن السياسة الأميركية يؤدي إلى مواجهة. وقالت إن الحكم النهائي في هذا الشأن سيتضح في ضوء الممارسة العملية. وفي امتداد هذا الكلام، يمكن القول إن الايجابية الفائقة التي أبدتها رايس حيال فرنسا وأوروبا عموماً، لا بد أن تدعم ببراهين واقعية في المرحلة المقبلة، يؤكد جورج بوش وإدارته من خلالها انه عدل عن ميله للتفرد، وبات مقتنعاً بجدوى العمل التعددي على الساحة الدولية، وهو ما طالما دعت إليه فرنسا. ولذا لا بد من التساؤل عما إذا كان بوش اعتمد مثل هذا التحول الاستراتيجي أم أن الأمر لا يشكل بالنسبة اليه سوى بادرة تكتيكية أملتها عليه الصعوبات التي يواجهها في العراق؟ ويمكن القول إن من العناصر التي تتيح الحكم على نيات بوش الفعلية حيال شركائه الأطلسيين، مدى استعداده للتجاوب مع الدعوات الفرنسية المتكررة لإعادة صوغ العلاقات الأطلسية على أسس أكثر توازناً. والمطلوب منه بالتالي الابتعاد عن المعادلة التي سعى إلى فرضها خلال ولايته الاولى، وشكلت موضع رفض فرنسي متكرر، ومفادها أن التحالف يعني التبعية للمواقف الأميركية. وبانتظار بوادر التجاوب أو عدمه، يمكن الاستعانة بما أوردت صحيفة"ليبراسيون"الفرنسية تعليقاً على كلام رايس، فرأت"انها تقول الكلام الذي ينبغي قوله، ولكن هل انها ستقدم على الخطوة المطلوب القيام بها".