قد تكون العلاقة بالأمكنة سراً من أسرار توجّه الرسامة اللبنانية غادة جمال لمخاطبة المناظر الطبيعية، التي أخذت تترسخ في انتاجها منذ العام 1990، أثناء اقامتها في كاليفورنيا، واستمراراً مع عودتها الى لبنان، حتى بات المنظر بوجهيه المديني - الاغترابي أو الانتمائي المستوحى من الطبيعة اللبنانية، هو موضوعها الأثير الذي يشغل أحلامها اللونية. والمعرض الجديد الذي تقيمه في غاليري أجيال، متضمناً 27 لوحة أكريليك وزيتيات وغواش يسعى الى التوفيق بين الواقع والتجريد، على مستويات متنوعة من التجارب والتمارين اللونية، من دون التخلي عن الجمالية التي ترضي الذائقة البسيطة لعين المتفرج، كما ترضي الباحث عن خصائص تميز مناظر غادة جمال عن سواها من رسامي الطبيعة الكثر في زمن رواج المنظر الطبيعي في المعارض البيروتية. فالتحرر في التجريب هو سمة من سمات ريشة الرسامة وأسلوبها التلويني المتعدد الطبقات والمراحل. ذلك ما يعطي صفة الدينامية لضربات اللون التي تتحرك على المساحة بطلاقة، في انهاض المشهد اللوني الذي ينبثق أشكالاً مموهة لجبال وسهول وآفاق ومنحدرات صخرية. فالتلوين ينطوي على اتجاهين: اتجاه يعمل على بسط اللون على المساحة، والاتجاه الثاني هو كل ما يأتي بموازاته من التعقيبات الانفعالية للضربات اللونية التي تقلّم وتشذب وتخطط وتظلل، فتُحدث في شتى تحركاتها واتجاهاتها، أنواعاً من الزيوح والمنحنيات والأقواس، التي من شأنها ان تهب المساحة الصماء شكلاً من حيوية نبض الحياة الموجودة في تكاوين الطبيعة. فالتأليف الذي يحلم بالمساحات الشاسعة، هو أفضل ما تبوح به المناظر الآخذة الى وهج الأحمر. والأحمر ما هو الا غطاء رقيق يشف عن الوردي، ويتفيأ الأصفر - الترابي. فالرؤية البانورامية تسعى لاختزان مكونات المنظر، من الزاوية الرحيبة التي تسمح بتوسيع آفاق المشهد اللوني وتطويره، ما بين القريب والبعيد، في مسافة تقطعها العين بسهولة وتتجول في أنحاء حقولها المشعّثة كي تخرج من مسارب اللون الى أماكن الضوء. ولئن كانت المناظر تميل الى التعبير عن خط الأفق للفصل بين الأرضي والسماوي، فإن ملوانة غادة جمال تجاور بين درجات اللون الواحد، ثم تضيف اليه ما يقابله أو يكمله أو يناقضه بأقل ما يمكن من الضربات أو اللمسات المسطحة. تشيّد غادة جمال مناظرها من الذاكرة، المستلهمة في شكل أساس من تكاوين الطبيعة بهيكليتها الخطوطية ومساحاتها اللونية. فالطبيعة لها هي فضاء لون، ومساحات مأهولة بالتضاريس والأخاديد، وكذلك هي خط أفق، وأرض وسماء وكثافة وأثير ولون. فهي تهمل من الواقع تفاصيل الأشكال، مما يقرب مناظرها من المناخات التجريدية. وهذا الخيار لم يأت عبثاً، بل جاء بعد تقصيات الرسامة في سنوات تكوينها الفني، وتمرسها في رسم المناظر الطبيعية من المواقع في الهواء الطلق. فالطبيعة تنسجها بألوان قوية ساطعة ووحشية أحياناً، غير انها على النقيض من ذلك تذهب الى التقشف في استخدام الألوان المخففة الرقيقة، وتبالغ في التشفيف لإيجاد النور الذي ينبثق من سراب الطبيعة الصخرية الجرداء الحالمة.