يرسم اغتيال جبران غسان تويني، في أعقاب الاغتيالات التي قفّت على اغتيال رفيق الحريري وتلك التي سبقته مباشرة أي محاولة اغتيال مروان حمادة، صورة لبنان واللبنانيين في أعين القتلة وسياستهم. ولعل الصورة التي ترسمها الاغتيالات،"الناجحة"وپ"الفاشلة"معاً، وأستثني جورج حاوي والياس المر، أوضح قسمات وسمات من تلك التي يعرِّفها اللبنانيون ويفصحون عنها. فالثلاثة الذين تطاولت إليهم يد القتل غيلة، سمير قصير ومي شدياق وجبران تويني، ينتسبون، على وجه او آخر، الى"حالة"إعلامية وصحافية تتصل اجزاؤها، الواحد بالآخر، اتصالاً قوياً. فقصير وتويني صحافيان"نهاريان"، على رغم صدورهما عن مصادر أو"خلفيات"على ما يقال متفرقة، اذا استثنيت ارثوذكسية"رومية"لم يجمعا، قطعاً، على ايلائها معنى واحداً أو مشتركاً. ومي شدياق صحافية من"الشبكة اللبنانية التلفزيونية للإرسال". ويقتصر دورها على هذا. ويتشارك الثلاثة في مزاولة الصحافة على نحو قريب. فالاثنان كتبا، وربما تكلما وتحدثا ومثلا صورة ووجهاً فوق ما كتبا، كتب اذاً الاثنان على مثال إعلامي تلفزيوني تَقَدم الكتابة الصحافية التقليدية. فتنقلا بين الشاشة وبين الصفحة المكتوبة من غير غربة. وزوجة قصير،"الإعلامية"على شاشة"الشبكة اللبنانية"ثم على شاشة"العربية"، جيزيل خوري، عروة قصير القوية بالشاشة الصغيرة. وشدياق لم تكتب. ونفي الكتابة عنها تشخيص لتمثيلها على صنف الإعلام الصحافي تمثيلاً لم"تشبه"شائبة الكتابة. فهذه تتستر على صاحبها، وتحجبه أي تحجب شخصه المادي والمعنوي المباشر، وتعقد وتعرج سبل الوصول إليه. وليس من قبيل الاتفاق ان الصلات التي شدت"النهار"الى"الشبكة"إل بي سي كانت وثيقة. وفاقت قوة الصلات والروابط الثقافية، وربما الشخصية، قوتها السياسية. فپ"الشبكة"تجمع الجهاز الدعاوي الى المرفق التجاري المهني، على مثال يسع المحطة التلفزيونية صنعه، ولا يسع الصحيفة مثله. وضلع جبران تويني في"الشبكة"، وكان مقدم برنامج على شاشتها. وليس من قبيل التوسع المفرط القول ان رفيق الحريري، كان عَلَماً على شبكة الخيوط التي تصل الإعلام بالإعلان، والسياسة بالصورة المتلفزة، والاجتماع الأهلي بالاجتماع السياسي، والمحلي بالدولي. وپ"النهار"استمدت بعض دالتها ودورها من متانة جذورها في جمهور معلنين عريض وثابت، أخفقت صحف اخرى في استمالة نظيره في طوائفها او جماعاتها. واستحوذت"الشبكة"على معظم الإعلان اللبناني، وعلى شطر كبير من المشاهدين والجمهور، على رغم رابطتها بجماعة سياسية وأهلية تولت انشاءها قبل ان يضطرها الاستيلاء السوري الى تقية معلنة. فنجحت، شأن"النهار"ولكن على وجه مختلف، في التأليف بين جمهور متفرق الأهواء والمنازع، هو"جماهير"مشاهدين، وبين سائق سياسي وربما ثقافي غالب. فرابطتها بجمهورها"فيديرالية"او ائتلافية، اذا جازت العبارة. وهي عينها رابطة"النهار"بجمهور متنوع ومتباين، فيه العصبي، وفيه المديني اولاً او الاجتماعي والمتوسط الطبقي من الطبقات المتوسطة، وفيه"الفلسطيني"الهوى وپ"القومي السوري". وصحافيو"النهار"، فوق صحافيي"الشبكة اللبنانية"، ائتلاف فيديرالي من الميول والروابط والجسور، على صورة الاجتماع السياسي اللبناني. وليس مروان حمادة بعيداً من هذا التشابك. فالشاب الدرزي صحافي فرنسي لغة الكتابة قبل السياسة وملابستها. وهو شقيق ناديا تويني حمادة، وخؤولة جبران. وزاول الصحافة، قبل العشرين، كاتب افتتاحيات في"لو جور"يوم اشترى امتيازها صهره. واليزبكي الغرضية مولداً انتقل، سياسة ومشورة، الى هوى جنبلاطي عميق. فكان جسراً، عائلياً وغرضياً أهلياً وسياسياً، بين وليد جنبلاط وليس والده وبين"النهار"، ولداً عن والد، على نحو ما جمع اليزبكية الى الجنبلاطية، والنسب الدرزي الى الصهر المسيحي، والصحافة الى السياسة. وتجتمع من هذا هيئة او صورة تتصدرها الصحافة المكتوبة وهي في طور انتقالها الى الإعلام المتلفز والرقمي. وتلابس الانتقال هذا عوامل لبنانية ومحلية ظاهرة. فلا يتخفف الانتقال من عوامل الاجتماع السياسي اللبناني وخليطه وهجنته. فهو يدين للطوائف وتراثاتها دَيْنه الى المصاهرة، ويدين للمدينة وتكويناتها الفردية ومبادراتها الرأسمالية دينه الى الوراثة. والتحق رفيق الحريري، وهو المنتقل من الأعمال الى الحكم والدولة، ومن العامة الضعيفة الى أهل القوة، ومن صيدا والسنّة وپ"الناصرية"الفلسطينية الى لبنان إقليمي ودولي، وإلى ائتلاف واختلاط سياسيين واجتماعيين، ولبنانية لا تنكر"العروبة"ولا تماشي دعاويها من غير الوقوع على موازنة عملية. فضحايا الاغتيال السياسي، على هذا، يبدون ضحايا اغتيال اعلامي صحافي في المرتبة الأولى. وتسلكهم هذه الحال ومن سبقهم، مثل كامل مروة منشئ"الحياة" وسليم اللوزي منشئ"الحوادث"، في سلك واحد. وقتلُ هؤلاء كلهم في دائرة بيروتية، على معنى ثقافي ووظيفي، بأيد عروبية، على هذا القدر او ذاك، يدل من غير لبس أو على وجه لبس قليل على رأي العروبة السياسية، او رأي السياسة حين تركبها اللوثة العروبية، في بيروت هذه. ولعل غلبة شبكة الإعلاميين،"النهاريين"توسعاً، على ضحايا الاغتيال في الفصل الأخير من فصول الأزمة اللبنانية - العربية - الشرق الأوسطية، بعد غلبة القادة السياسيين ومقدمي الطوائف في فصلي السبعينات والثمانينات الماضيين من كمال جنبلاط الى رينيه معوض وبينهما موسى الصدر وبشير الجميل وحسن خالد، الى آخرين كثر، لعل غلبتهم قرينة على تأويل عروبي جديد للسياسة ولموازناتها ومنازعها. فيُقتل في فصلنا هذا من يتبوأون الصورة والعلامة والمخاطبة والبث. ورفيق الحريري واسطة عقد الدائرة التي تحل منها العلامة محل القلب. فليس مدار المجابهة، وهي حرب جبهات، على قوة الروابط الأهلية والعصبية، وإن لم تخلُ الساحة او يخل الميدان من هذه القوة. وقياس اغتيالات الفصل الأخير على اغتيالات الفصلين قبله يوحي أو يُسلم الى اصابة صاحب الاغتيالات، أو أهلها, بالفوات والفصام. فالاغتيالات السابقة انتهت الى ما انتهت إليه من إذعان لبناني ظاهر بسبب استطالتها عقداً ونصف من الزمن، وإطاحتها"قمم"الجماعات الأهلية، واستنادها الى حروب تحتية وعامية معقدة. ولم يحصل الإذعان إلا بعد سقوط 160 ألفاً من الضحايا، وهجرة مئات الآلاف. وكانت بين"القمم"وبين أجسام الجماعات لحمة انصرمت. ومن يقتلون اليوم، ورفيق الحريري في مقدمهم، ليسوا من هذا الصنف. ولحمتهم بالجماعات من ضرب آخر. والحريري نفسه مثال على صناعة اللحمة السياسية اللبنانية على نهج جديد، لبناني، يخلط الاجتماع بالسياسة، والغرضي الأهلي بالوطني الرمزي والقانوني العام "الحُرّي"، على ما كان يقال في مطلع القرن المنصرم في ترجمة"ليبرالي". وهذه اللحمة، ومنها لحمة 14 آذار مارس ومادته، اعصى بما لا يقاس من اللحمة الأهلية، ولا تستتبع ثأراً ولا اقتتالاً ولا ضعفاً. وعليه، فإذا قاد حدس القتلة الى التصويب على اهداف"صحيحة"، بينها وبين المرحلة، أو الفصل التاريخي، مناسبة واتفاق، فهو يخونهم في اساس القضية أو المسألة. ويصور لهم او يشبه ان الاغتيال، شأنه في الفصلين المنقضيين، مجزٍ أو مفضٍ الى ثمرة وجائزة، حين هو يجلو قسمات الاجتماع اللبناني على اجلى معانيها وأقواها. كاتب لبناني