ساد في العالم العربي التفسير الماركسي للثورة الفرنسية، بصفتها واسطة المسار التاريخي للحداثة الذي بدأ مع لوثر في القرن السادس عشر ومرّ بفرنسا سنة 1789 وبلغ ذروته مع الثورة البلشفية سنة 1917. وسادت تبعا لذلك نظرة معينة للعلمانية تراها متدرجة من الإصلاح الديني إلى المواقف البورجوازية من الدين لتنتهي إلى السياسات اللادينية التي رعتها الدول الاشتراكية الشعبية. والعلمانية بهذا المعنى ليست فصلا بين الدين والسياسة بل إلغاء نظام سياسي الدين من حياة البشر، أو على الأقل من حياتهم الاجتماعية. كان السؤال المطروح مختزلا في الشكل التالي: ما هو امتداد الثورة الفرنسية؟ وقد نظرت الثوروية العربية باتجاه الشرق، موسكو ثم بكين ثم تيرانا، اختلفت في تحديد النموذج النقي لكنها اتفقت في تعيين اتجاه البحث عنه. ليس ماركس المسؤول عن ذلك وهو الذي توفي قبل قيام أول تجربة ميدانية لتطبيق نظرياته لكنه مهّد إلى ذلك بتحاليله التي وجهت سؤال الحداثة وجهة اقتصادية. أما معاصره ألكسيس دي توكفيل فكان قد اقترح وجهة أخرى وقدم في كتابه"الديموقراطية في أميركا"1835- 1840 تحليلا مغايرا، حيث تنبأ أن مستقبل العالم الغربي/ الحديث سيكون القارة الجديدة، وأن اتجاه حل التناقض التاريخي بين المساواة والتقدم ليس إلغاء فائض القيمة بل تحقيق الديموقراطية. نظر إلى أميركا على أنها مستقبل الغرب، محذرا في الآن ذاته من المخاطر التي ينذر بها هذا المستقبل. لم يسمع صوت توكفيل إلى جانب ماركس ولم يكد يعرف اسمه في الفكر العربي المعاصر ولا كان كتابه في وارد منافسة"رأس المال". ولم تفلح محاولات ريمون آرون إعادة الاعتبار إليه في السبعينات من القرن العشرين حين كان صوت سارتر الأقوى. ولئن عاد توكفيل بقوة إلى الفكر السياسي الغربي بعد انهيار عالم القطبين فإنه لم يقتحم بعد الفكر العربي، كما ظل مجموع الفكر الليبرالي في مرحلته الثانية، مرحلة ما بعد الثورة، مغيبا، مع أنه الرافد الثاني إلى جانب الفكر السياسي الانغلوسكسوني في صياغة المقولات الأكثر حداثة الآن في مجال الفكر السياسي. تحوّلت صورة الثورة الفرنسية إلى ثورة ضد الدين، وأصبح هذا الجانب يمثل منها الروح والجوهر. لكن في نظر الليبراليين لم تكن هذه القضية هي الأساسية، ولا كان اصطدام الدين والثورة إلا أمرا حدثيا سببه أن الدين لم يساير عصره ورجاله لم يستوعبوا خاصيات زمانهم. لذلك حاول كونستان أن يقارب هذه القضايا بهدوء ما بعد الفترات الثورية المضطربة. وأعاد غيزو التفكير في التاريخ الأوروبي بعيدا عن التحزب المذهبي. وأعجب توكفيل بالنظام الأميركي الذي كان يجمع في عصره بين العلمانية واحترام الحريات الفردية ومنها خاصة حرية التدين. كان توكفيل تلميذ غيزو، حضر دروسه في السوربون التي عرفها القراء العرب من خلال تعريب نعمة الله خوري ونشر الأفغاني وتقريظ عبده. وكان غيزو المواصل لتأملات كونستان حول مسار التاريخ الإنساني بعد الثورة. وكانت تجمع الثالوث الليبرالي، رغم اختلافات كثيرة، فكرتان: أولاهما أنه لا توجد أنظمة فاضلة في المطلق، كل عصر يفرض نظامه الأنسب. ثانيتهما، أن الدين قابل أن يقوم بدور إيجابي إذا قبل الانتقال من نظام سياسي واجتماعي منتهٍ إلى النظام الذي يطلبه العصر. إنهما فكرتان استهوتا لا شك الموقف الوسطي للإصلاحية الإسلامية، سوى أن تحديد ما يلائم العصر كان عندها أمرا تجريديا، فيما كان في الفكر الحديث أمرا واقعا عنوانه الملكية الدستورية المقيدة في إنكلترا ثم الثورة الفرنسية. إن المواقف الفكرية لا تتطور إذا اصطدمت بواقع اجتماعي ميزته الجمود، بل هي تتراجع حينئذ. ولئن لم يحظ هذا التيار بتواصل في التقبل العربي فلأن ما كان يدعى في أوروبا ب"القضية اللاهوتية السياسية"لم يخرج في الفكر العربي المعاصر عن مجادلات الكفر والإيمان، فظل الصراع محصورا بين ماركسوية لم تحتفظ من فكر ماركس الثري إلا بالإلحاد وإسلاموية لم تحتفظ من التراث العربي المتنوع إلا بالإيمان. وبين هذا وذاك توفيقيات بائسة، تبحث عن اختصار المسافات بأدنى التكلفة وتقديم الإجابات المبسطة للقضايا المعقدة. هل أننا نشهد اليوم بداية توجه نحو اجتهادات دينية ليبرالية، على شاكلة ما اضطلع به التيار الليبرالي بعد الثورة الفرنسية؟ ليس مؤكدا أن الأصوات الجديدة التي تزعم اليوم أنها تقدم هذه الاجتهادات تتمتع بعمق مفهومي ليبرالي، بل الأرجح أن الكثير منها لا يسعى إلى أبعد من مواصلة المجادلات والردود مع الماركسية، مع أن القضية ليست الانتصار على خصم فكري بل التأسيس لمسار فكري جديد. وأحسب أنه لم يعد ينطلي على الناس تنميق الخطابات لتبدو عصرية، ولا عاد مقبولا التوفيق السطحي بين المتناقضات. وليس الفكر الليبرالي حاوية حجج ضد الماركسيين، بل هو فكر قائم على مجموعة من القيم يتعين على مدعيه أن يتثبتوا أولا هل هم مستعدون لتحملها على وجه الصدق. ولا شك أن أول تلك القيم هي المتضمنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي لا يقبل المهاترات التوفيقية. وإذا كان ثمة من قيمة كونية للثورة الفرنسية فهي مساهمتها الحاسمة في تحديد هذه الحقوق. وعلى هذا المحك تختبر اليوم حقيقة من يزعمون أنفسهم إسلاميين تقدميين أو ليبراليين أو عصريين أو جدداً أو ما شاكل ذلك من التسميات، فإن الطرق الخطابية في التوفيق والتلفيق لم تعد مقنعة، والمواقف الفضفاضة لم تعد مجدية. والوعي المضطرب بالتاريخ والحاضر والمستقبل هو في أشد الحاجة إلى التوضيح.