ننظر غالباً إلى الابداع، بصفته عملاً تطوّعياً، قائماً على الهواية... ونشاطاً اجتماعيّاً لا قبل له ولا بعد. في حين أن المجتمعات المتطوّرة تنظر إلى القطاع الفنّي بصفته قطاعاً انتاجياً، وإلى الابداع بصفته مهنة قائمة على التخصص، بما يقتضيه منطق التخصص من خبرة ودراسة وممارسة وحركة تبادل بين"منتج"و"مستهلك". ولعلّ حالة العزلة والانحسار التي تطغى على المجالات الثقافية بشكل عام في العالم العربي، عائد إلى غياب تلك الذهنية عن التوجّه السياسي والتخطيطي والاداري. واليوم يتزايد الوعي بضرورة التعاطي مع الثقافة كمجال اقتصادي حيوي ومنتج، يساهم في التنمية، ويفرز قطاعات متخصصة وشبكات توزيع، وسياسة انتاج وتسويق تعطي للعمل الثقافي فرصته في الوصول الى الجمهور، وللحياة الثقافيّة مكانها في سلوك المواطن ودورة النشاط العام. باختصار، إما أن نصبح مجتمعات استهلاكيّة، مقتصرة على الترفيه، لا مكان فيها للفنّّ الراقي والابداع الحقيقي - الا في الدوائر النخبويّة الضيّقة والمناسبات - وإمّا على المؤسسات الخاصة والرسمية، على الجمعيات الأهليّة والشركات التجاريّة، أن تعمل مجتمعة على بناء"اقتصاد"ثقافي، يفرض القواعد ويبني الحوافز التي تقوم عليها الدورة الابداعيّة وينظّم العلاقة بين مبدع ومنتج ومتلقّي. ومن هذا المنطلق بادر"المركز الثقافي البريطاني"في بيروت يوم أمس، بالتعاون مع الجمعية اللبنانية لتعزيز الرعاية الثقافية، وبالاشتراك مع وزارتي الثقافة والاقتصاد في لبنان، إلى تنظيم ندوة تهدف الى اطلاق مشروع طموح لتطوير الصناعات الابداعية في لبنان ودعمها. شارك في ندوة"المستقبل المبدع"التي افتتحها في البيال وزير الثقافة اللبناني طارق متري بحضور السفير البريطاني في لبنان جايمس وات، ستة محاضرين أجانب هم كريس باول رئيس الصندوق الوطني للمنح الخاصة بالتكنولوجيا والعلوم والفنون في بريطانيا، أورلاندو إدواردز عضو المجلس الثقافي البريطاني الذي أطلق العام 2001 برنامجاً رائداً حول تطوير الاقتصاديات الثقافيّة، توم فليمينغ، فيارد ستيرك، جون ويلمز دايفيز، ستيف هيل. كما شارك من الجانب العربي شادي كرم رئيس الجمعيّة اللبنانيّة لتعزيز الرعاية الثقافيّة، سهير ندّي الخبيرة في الملكيّة الفكريّة، عماد زبيب الباحث والأستاذ الجامعي، والخبير في شؤون الادارة الاستراتيجية وادارة خطوط التوريد، ابراهيم تابت المدير التنفيذي لوكالة"ستراتيجي دي. دي. بي"، خاطر أبي حبيب مدير"كفالات"التي تدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الحصول على التمويل المصرفي، المهندس العالمي برنار خوري، نائلة كتّانة كونيغ مديرة"المؤسسة الوطنيّة للتراث"في لبنان. ويهدف المشروع الطويل المدى الذي يطلقه المركز الثافي البريطاني، ويقوم على شبكة من الشركاء الدوليين، إلى الاستفادة من خبرة المملكة المتحدة في مجال الصناعات الابداعية لتوليد فرص العمل والثروات، ولمعالجة مسائل مثل الدمج الاجتماعي، واعادة احياء المدن، والتمكين. كما يطمح البرنامج الذي تمّ تناوله في ندوة بيروت يوم أمس، إلى تبادل الخبرات والمهارات بين مختلف الشركاء، وعلى العمل ضمن شبكات لوضع خريطة شاملة لمجالات الاقتصاد الابداعي، وكيفية الافادة من الثقافة الابداعية، وتعزيز مهارات القيادة وبناء القدرات لضمان نمو الاقتصاديات الابداعية التنافسية وتطوّرها وقدرتها على الاستمرار. ويهدف البرنامج الذي انطلق يوم أمس خلال ندوة"البيال"في بيروت، الى وضع خارطة للصناعات الابداعية في المنطقة، وجمع البيانات الاقتصادية والبحث في حاجات البنية التحتية والحواجز التي تعيق النمو في ميدان الصناعات الابداعية. وكان"المركز الثقافي البريطاني"استقدم في شباط فبراير من العام الماضي، ثلاثة خبراء بريطانيين في الصناعات الابداعية، هم أندرو سينيور، ونيكي بوتشارت، وفرانس ميدلي للوقوف على أحوال هذا القطاع في لبنان. وشهدت ندوة"المستقبل المبدع"أيضاً اطلاق ورشة وضع خارطة الصناعات الابداعية في لبنان التي ستنفذها الجامعة الاميركية في بيروت، تحت اشراف البروفسور ستيف هيل.