أعترف بأن ادارة بوش نجحت في تنظيم انتخابات عراقية على الطريقة الاميركية، اقصد طريقة الفلوس لا طريقة الديموقراطية. مع انهيار الوضع الامني خلت حملة الانتخابات العراقية من مهرجانات انتخابية تذكر، او من مرشحين ينتقلون من بيت الى بيت لتوزيع برامجهم ووعودهم، او يقبّلون الاطفال في الشوارع، او يقفون على صندوق ويتحدثون الى الناس عبر مكبر للصوت. وهكذا لم يبق من مشاهد الانتخابات الاميركية، وهي ديموقراطية فعلاً، غير الفلوس، فالوسيلة الاهم، وتكاد تكون وحيدة، لاتصال المرشح بالناخب هي عبر الدعايات في وسائل الاعلام، خصوصاً التلفزيون. بكلام آخر، العراق يشهد اليوم انتخابات الاثرياء، غير ان الشعب فقير والاثرياء لن يمثلوا سوى انفسهم. ثم هناك السؤال من أين أتت ثروة الاثرياء؟ قرأت ان أحمد الجلبي يدفع ثمن بث نحو عشر دعايات انتخابية له وللمؤتمر الوطني من تلفزيون الديار فقط، وبكلفة عشرة دولارات للثانية. طبعاً هذه الفلوس ليست من المرتب الشهري الذي دفعته الاستخبارات الاميركية للمؤتمر الوطني العراقي، وكان 340 ألف دولار في الشهر، او من البنوك التي افلست او لم تفلس، او من صفقات وعمولات مزعومة، ومن السطو على الوزارات العراقية بعد"التحرير". الفلوس لا بد من ان تكون أتت مما وفر أحمد الجلبي من مرتبه استاذاً، ومن امتناعه عن التدخين. الجلبي وأمثاله هم النموذج السيئ للانتخابات، الا ان هناك مرشحين وطنيين، وآخرين يحاولون انقاذ بلدهم، والأكيد في الموضوع ان أسوأ انتخابات تجرى في العراق بعد سقوط صدام حسين هي افضل من أي انتخابات أجريت في أيامه السود كما ان محاكمته اكثر عدلاً من أي محاكمة نظمت في تلك الايام. المشكلة ليست في الانتخابات، على رغم النواقص الظاهرة، وانما في حقيقة ان هذه الانتخابات لن تنهي الارهاب الذي يعصف بالعراق، وأنا اسميه ارهاباً لا مقاومة، وأدين اطرافه كافة، فقتل الاطفال والنساء والشيوخ يرفضه كل خلق وعقل ودين، وهو مرفوض في الاسلام بوضوح قاطع لا يترك مجالاً لاعتذار. الرئيس بوش نفسه اعترف قبل يومين بأن الانتخابات العراقية لن تنهي العنف، الا انه لم يتوقف عند ما سبق، وهو صحيح، وانما اكمل زاعماً ان العراق تهدده ايران وسورية والتوتر الاثني والديني في داخله. ايران وسورية لا تهددان العراق، والتوتر الاثني والديني موجود فعلاً، غير انه لم يسر في طريق حرب اهلية الا بعد الاحتلال، وكلام الرئيس الاميركي يمثل مشكلة اكبر، فهو يتهم هذا الطرف او ذاك، ويحمل القريب والبعيد المسؤولية، ويرفض الاعتراف بأن الحرب كانت غير مبررة، وأسبابها كاذبة مئة في المئة، وانها زادت الارهاب بدل خفضه بسوء ادارة العراق بعد الحرب. الرئيس بوش لا يرى دور ادارته في المشكلات اللاحقة وانما يقول ان الانتخابات العراقية"تحول مذهل في بلاد لم تعرف التجربة الديموقراطية...". هل هذا صحيح؟ حتى سقوط الملكية في العراق كانت هناك تجربة ديموقراطية نشطة وقطعاً غير كاملة او مثالية في العراق، وقد تعاقب على رئاسة الوزارة عدد من وجوه الطائفة الشيعية، وكان آخر رئيس وزراء كردياً. ارجو الا يعتقد القارئ انني انتقد وحدي، فأبرز اركان الكونغرس انتقدوا كلام الرئيس، من دون ان يكونوا عرباً او مسلمين، والنائب جون ميرثا الذي كان طالب بانسحاب فوري من العراق، عاد لينتقد الرئيس ويقول ان الحرب لا يمكن ان تكسب عسكرياً. وهو اكد ان العراقيين"ليسوا ضد الديموقراطية، وانما ضد احتلالنا بلادهم". ميرثا الذي قاتل بشجاعة في فيتنام يعرف ان الوجود العسكري الاميركي في العراق احتلال، وهناك عملاء محليون لهذا الاحتلال يدافعون عنه. السيناتور ادوارد كنيدي ايضاً انتقد كلام الرئيس وقال ان اعادة انتشار القوات الاميركية في العراق يجب ان تبدأ فوراً بعد الانتخابات. وأضاف:"ان وجودنا العسكري الكبير أثار المقاومة له". ازعم ان الانتخابات المنقوصة مشكلة، وان رفض ادارة بوش الاعتراف بأخطائها مشكلة اكبر، وأزيد ان المشكلة الاهم مما سبق هو ان يدي الادارة لوثتا بالحرب على الارهاب الى درجة ان الولاياتالمتحدة ذات الديموقراطية العريقة والتقاليد الراسخة والريادة في حقوق الانسان لم تعد مثلاً يحتذى. ادارة بوش تعارض التعذيب في سجون العراق وتمارسه حول العالم. هي وضعت في الحكم امثال بيان جبر صولاغ، وتبين بعد اكتشاف الوكر الاول للمعتقلين في 15 من الشهر الماضي ان هناك اوكاراً اخرى، ونقل معتقلون الى المستشفيات بسبب التعذيب الفظيع، فأكد المدير العام لوزارة الداخلية ان بعض السجناء"صفع"ولا شيء اكثر من ذلك. ولا يزال نائب الرئيس ديك تشيني يحاول حتى الآن اقناع الكونغرس بالموافقة على تعذيب لا في العراق وحده، بل حول العالم، كما ان الرئيس بوش هدد بالفيتو على موازنة وزارة الدفاع اذا قيّد الكونغرس يديها في التعاطي مع السجناء والمعتقلين. هذه ليست الولاياتالمتحدة كما عرفتها طالباً وزائراً ومقيماً، وهي ولايات متحدة لا يمكن ان تستمر طويلاً، فاليمين المتطرف لا بد من ان يسقط لأنه لن يستطيع الكذب على كل الشعب الاميركي كل الوقت. وعندما يسقط يمين المحافظين الجدد، تعود اميركا ونموذجها الانساني كقدوة لبقية العالم، خصوصاً عالمنا. في غضون ذلك لا أجد ما أطلب سوى رحمة الله بالعراق وشعبه.