إنّها الأقدار، شاءت للشاعر والأديب العراقي يوسف الصائغ أن يغمض عينيه بعيداً من بغداد، بعد حياة حافلة بقصص الحب والحداد، وندوب الثورات والخيانات. بغداد التي كان يردد أنّه يرفض مغادرتها مهما تبدّلت الظروف. جاء صاحب"اعترافات مالك بن الريب"1972 الى دمشق ليموت، أسوة بشعراء عراقيين كبار سبقوه، من الجواهري إلى عبدالوهاب البياتي. وربّما كان حدسه أنّها رحلته الأخيرة، إذ كتب في جريدة"الزمان"العراقيّة في العاشر من الشهر الجاري، أي قبل يومين من انطفائه:"زرني/ أخافُ.../ تكاد يائسة تفلّ عزيمتي.../ والموت.../ كل الموت، عندي، أن أهون،/ ولا ترى الميقاتَ، عيني.../ رؤيا الرجال الصادقين...". يوسف الصائغ البصرة 1933 - دمشق، 2005 له حكاية خاصة مع الموت، حتّى أنّ الاشاعات نعته في الماضي القريب، وهو في كامل الصحّة. ولعلّ علاقته بالموت تشكّل أحد المحورين الأساسيين في أدبه ومسيرته الابداعيّة وحياته، فيما تشكّل مواقفه السياسيّة الاشكاليّة المحور الآخر. وقد يكون الشاعر حمل معه إلى القبر عذاب ضمير لم يفصح عنه أبداً، وتعباً من اتهامات"الخيانة"، و"التواطؤ مع الجلاد"، مثلما حمل معه قهراً لا يمكن الشفاء منه، أسى على زوجته جولي التي قضت أمامه في حادث سير، بين أنقره وأضنة تركيا، ذات يوم من آذار مارس 1976... فبكاها مجموعة شعريّة بعنوان"سيدة التفاحات الأربع"، تبقى علامة مهمّة في مسار الشعر العراقي. عرف يوسف الصائغ السجن في ستينات القرن العشرين، أيّام انتمائه الى الحزب الشيوعي، ولازمته أطياف زنزانته في"نقرة السلمان"طويلاً، حتّى بعدما صار من أعيان نظام صدّام حسين إلى جانب حميد سعيد وعبدالرزاق عبدالواحد وآخرين. لكنّه لم يتبرأ يوماً من ذلك الانتماء، بل بقي يجاهر به، مثيراً موجة عارمة من الانتقادات. فصار عليه في أيّامه الأخيرة، إضافة إلى العزلة والهزيمة ودوامة العنف التي ابتلعت الوطن المستباح، أن يواجه اتهامات بالخيانة، يرميه بها رفاق الأمس البعيد، أيّام المحاكم الشعبيّة في الموصل، و"الحلم الشيوعي"الذي تبرأ منه مرتمياً في أحضان"البعث"! لكن يوسف الصائغ الذي شغل منصب مدير دائرة السينما والمسرح، سيستعيد، بعد المصالحة الوطنية، مكانته في الذاكرة الأدبيّة العراقيّة، الغنيّة والخصبة، بصفته أحد رموز تلك الانعطافة الحاسمة في الخمسينات. منذ"قصائد غير صالحة للنشر"1957 قرّر مع بعض رفاق الشغب أن يضرموا النار في جسد الثقافة السائدة. وعاد في السبعينات الى الجامعة ليعد دراسة ماجستير عن التجارب الشعريّة الجديدة، ووضع مؤلّفه المرجعي"الشعر الحرّ في العراق". وخاض الصائغ تجربة الرواية مع"اللعبة"1972 و"المسافة"1974... وصولاً الى"السرداب رقم 2"1997. وخلال عقد الثمانينات كتب ثلاثة نصوص مسرحيّة، يطغى عليها الطابع الذهني، والعظة الأخلاقيّة والوطنيّة:"الباب"1986 و"العودة"1987 و"دزدمونة"1989. قدّمت تلك الأعمال، في بغداد وخارجها، خلال حرب الخليج الأولى، ولعبت دوراً في الترويج للحرب ضدّ إيران، وتمجيد أبطالها. ولم يمنع ذلك مهرجاناً عريقاً مثل"أيام قرطاج المسرحيّة"في تونس من تكريمه، ومنحه إحدى أهم جوائزه آخر الثمانيات جائزة أفضل نصّ لمسرحيّة"الباب". كان دائماً يردد أن مظفّر النوّاب هو الذي غيّر مساره الشعري. وكان مجحفاً في حكمه على شعراء كبار مثل سعدي يوسف وأدونيس. إنّه يوسف الصائغ، الشاعر الذي بقي يخوض الحروب الخاسرة... حتّى الرمق الأخير!