تجاوزت الأكاديمية السويدية أمس كل التوقعات، وفاجأت الأوساط الأدبية والإعلامية بمنحها جائزة نوبل للآداب للعام 2005 الى الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بينتر الذي أنهى الخامسة والسبعين قبل أيام. ورأت الأكاديمية في"براءة"الجائزة ان بينتر هو"افضل من يمثل المسرح البريطاني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية"، وأضافت:"انه يكشف في مسرحياته المتاهات الكامنة وراء كلام الحياة اليومية ويقتحم مواطن الظلم الخفية". ولئن بدا فوز هارولد بينتر بالجائزة مفاجئاً نظراً الى ان اسمه لم يرد في لائحة المرشحين، فهو يستحقها تماماً ليس لأنه واحد من رواد المسرح العالمي الحديث فحسب، وإنما لكونه ايضاً صانع احداث يعرف كيف يحرّك التيارات الفكرية والسياسية وكيف يخوض المعارك والسجالات الكبيرة. ولعله الكاتب شبه الوحيد القادر على الجمع بين هذين البعدين: الكتابة والفعل. والجميع يذكر مواقفه المعارضة للحرب التي شنت على العراق وآراءه النقدية القاسية التي اطلقها ضد الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير. ولم يسع هذا الكاتب الذي سمّي ب"المعارض ذي الضمير الحي"الى مثل هذه المواقف النقدية حباً في الظهور أو في إحداث الصخب إعلامياً وسياسياً. بل إن بعض مواقفه انعكست سلباً عليه لا سيما عندما عمل ضد حكومة مارغريت تاتشر او عندما نشر رسائل"غاضبة"في الصحف البريطانية لم يوفر فيها الفضيحة الرئاسية الأميركية"مونيكاغيت". ولم يشعر بينتر يوماً بأي حرج في القول ان بريطانيا ليست إلا تابعاً يدور في فلك الولاياتالمتحدة الأميركية. وفي الآونة الأخيرة، عقب نهوضه من كبوة المرض الخبيث أصدر ديواناً اسماه"الحرب"2003 وضمّنه قصائد تتناول بشاعة الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدةوبريطانيا على العراق، وراح يرثي الضحايا، اطفالاً ونساء، والأبرياء الذين قتلوا ظلماً. راجع ص 16 لم يكن هارولد بينتر ينتظر أي جائزة بعد انتقاده اللاذع للحرب على العراق، لكن"نوبل"لم تغفل فرادة أدبه المسرحي وجرأة صوته، هو الذي كتب مسرحية عن القضية التركية عنوانها"لغة الجبل"ودان النازية في اكثر من عمل. لكن بينتر يظل أولاً وآخراً كاتباً مسرحياً، استطاع ان يؤسس عالماً جديداً قائماً عند"مفترق"مسرحين: مسرح العبث صموئيل بيكيت، يونسكو والمسرح البريطاني"النيو - ناتوراليست"الطبيعي الجديد. وتمكّن بينتر من تجديد الكتابة المسرحية منطلقاً من مراسه الصعب والتجارب التي خاضها حياتياً وثقافياً. فهو عمل في يفاعه بواباً وسائقاً ودخل عالم التمثيل كممثل احتياطي، وكان حينذاك يكتب الشعر. وقد رفض في مرحلته الأولى تلك أداء الخدمة العسكرية وآثر السجن على التخلي عن موقفه الرافض. لكنه ما ان بدأ في كتابة المسرح في العام 1957 وكانت اولى مسرحياته"الغرفة" حتى راح يكتب بغزارة، وبلغت مسرحياته الثلاثين، موزعة بين نصوص قصيرة ذات فصل واحد ونصوص طويلة حافلة بالشخصيات والوقائع. عطفاً على القصائد الكثيرة والمقالات والسيناريوات التي لقيت نجاحاً كبيراً في عالم السينما الحديثة. وليس من المستهجن ان تكون الموضوعات الأثيرة لدى بينتر مشوبة بطابع سوداوي وحس مأسوي وعبثي ومنها مثلاً: الكراهية العائلية، الخيانة، القلق الوجودي، التهديد المجهول، الفانتازيا المثيرة، السخرية المرة... اما الشخصيات فهي في حال من التأزم والتردد والخوف. انها شخصيات تعيش اقدارها من غير ان تسعى الى مواجهتها وتحدّيها. ولعل العالم الداخلي الذي تدور فيه معظم مسرحيات بينتر يخفى وراء بساطته العادية وطابعه"اليومي"الكثير من القلق والاضطراب والجنون. وقد يبدو الحوار في بعض اعماله ولا سيما الثنائية أشبه بالمونولوغ الغامض والعبثي الذي بصوغه الكاتب داخل بنية هرمية، فيبدأ بقوة ثم يخفت تدريجاً الى ان تبلغ اللغة ذروة الصمت. واللغة عنصر أساس في مسرح بينتر وهي تحل في احيان محل الحدث نفسه، بل تصبح هي الحدث الذي تتبادله الشخصيات وتصنعه عبر حواراتها المتواصلة والمتقطعة. وتؤلف اللغة في مثل هذا المسرح ما يسمى"النص المتواري"الذي لا يقوم من دونه النص المكتوب. واذا عرفت مسرحيات هارولد بينتر رواجاً في لغات كثيرة وفي مسارح عدة في العالم، فهي شهدت نجاحاً ايضاً في العالم العربي وعلى خشباته. ولطالما استعان المخرجون العرب، في القاهرة ودمشق وبيروت وتونس وسواها، بهذه الاعمال، فترجموها او اقتبسوها وقدموها في صيغ مختلفة. والجمهور المسرحي العربي ولا سيما جمهور المهرجانات، يعرف جيداً مسرح هارولد بينتر ويعرف شخصياته الكثيرة التي شاهدها على الخشبة. ويمكن وصف هذا الكاتب البريطاني بأحد"نجوم"المسرح العربي الحديث تبعاً لتعريب معظم اعماله وإخراجها مسرحياً.