المراسلة السورية الشابة لمحطة تلفزيون باللغة العربية قالت ان السوريين"في صدمة لاغتيال اللواء كنعان... عفواً لانتحار اللواء كنعان". كانت زلة لسان فرويدية... وقد ارتكبنا مثلها في لندن، فعندما اتصلت بمكاتب"الحياة"في بيروت لوقف مقال ارسلته في الصباح، قلت انني سأرسل في مكانه مقالاً عن قتل اللواء كنعان. ومشكلة كل الذين عرفوه انه لم يكن من النوع الذي ينتحر، وهذا رأي روبرت فيسك في"الأندبندنت"امس. حتى إشعار آخر أقبل البيان الرسمي انه انتحر، وثمة قرائن تعزز الانتحار، مع وجود شكوك لن تخرج الى حيّز اليقين إلا اذا توافرت معطيات جديدة. ولكن سواء انتحر اللواء كنعان او"انتحروه"فإن غيابه لا يمكن ان يفصل عن التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولن أزعم ان عندي معلومات ليست عند احد غيري وإنما بعض الأفكار. كان غازي كنعان على علاقة صداقة وعمل وتعاون مع رفيق الحريري، وهو ليس متهماً عندي، فهل يكون انتحر لشعوره بالفشل، ولسقوط دنياه اللبنانية حوله، ام ان هناك من"انتحره"لتحميله المسؤولية في غيابه. هناك لبنانيون كثيرون ناصبوه العداء وهو في لبنان ولم يحزنوا لرحيله، واعتبروا وجوده في بلادهم نحو 20 عاماً دليل الوصاية السورية على لبنان. غير ان غازي كنعان نفسه لم يرَ دوره بهذا الشكل، وإنما اعتبر انه بنى صداقات وتحالفات، وأن لبنان عرف السلام في سنوات عمله مسؤولاً عن الأمن، لذلك كان للحملات عليه بعد الخروج السوري من لبنان تأثير مضاعف، فهو اعتبر انه طعن في الظهر، او خذل. وشكا كثيراً في الأشهر الأخيرة من قلة الوفاء، ومن الحملات الشخصية عليه بتهمة الفساد الخاص والعام. مع ذلك كانت العبارة الأخيرة في تصريحه لإذاعة"صوت لبنان"تحتمل معنيين، فهو قال:"ان هذا آخر تصريح ممكن ان اعطيه"، والسؤال هل قصد انه لن يتحدث مرة اخرى عن تحقيق ديتليف ميليس، او ان البيان المعد الذي قرأه هو آخر كلام له عن أي موضوع، وانتحر خلال ساعة او اثنتين من بثه. هو نفى ما أورده تلفزيون"نيو تي في"عن التحقيق الدولي جملة وتفصيلاً، وإن كان هذا صحيحاً، فهل نعود بانتحاره الى حالة الإحباط او الفشل التي كان يعانيها؟ وإذا كان نفيه غير صحيح، وإذا كان ما نقل التلفزيون اللبناني هو فعلاً ما صرح به للمحقق الدولي، فهل يكون الأمر أنه ادرك ان هناك في السلطة او الأجهزة من سرّب شهادته، وأنه سيكون مستهدفاً ككبش فداء. وسؤال آخر، هل يكون اللواء كنعان كبش الفداء الوحيد، ام هناك من سينتحر بعده؟ الرئيس بشار الأسد أكد لي ان سورية بريئة تماماً من جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعندما سألته هل يمكن لمسؤول كبير او جهاز ان ينفذ الاغتيال من وراء ظهره، قال ان مثل هذا العمل خيانة عظمى عقوبتها الإعدام. وقد كرر مثل هذا الكلام بعد اسبوع في مقابلته مع"سي ان ان". نتائج التحقيق الدولي ستنشر الأسبوع المقبل، وكل ما يقال حتى نشر التقرير الرسمي هو اشاعات وتكهنات لا تفيد، لأن اكثرها يلغي بعضه بعضاً. وهكذا فأنا ابقى مع الموقف السوري الرسمي من اغتيال رفيق الحريري، ومن انتحار اللواء غازي كنعان الى ان يثبت العكس. في غضون ذلك، اراجع بعض ما عرفت من زوايا شخصية غازي كنعان. لم أره او اتصل به في لبنان، وكان الاجتماع الوحيد بيننا في دمشق سنة 2002 بعد ان عين رئيساً للأمن السياسي، وهو عاتبني لأنني لم اتصل به ولو مرة واحدة في لبنان، وعرض علي مجموعة من مقالاتي عن المحافظين الجدد جمعها في ملف، واقترح ان انشرها في كتاب. ما لفت نظري في ذلك الاجتماع اليتيم وفي اتصالات هاتفية عدة بعده انه حدثني دائماً عن لبنان، وكتبت مرة اقارنه بالصديق علي الشاعر الذي عين وزيراً للإعلام السعودي، وبقي لبنان شغله الشاغل لسنوات طويلة بعد ان ترك منصب السفير السعودي في لبنان. أغرب ما سمعت منه كان عن دوره في خلاف كنسي ربما كاثوليكي في البقاع مع تسلمه العمل رسمياً رئيساً لجهاز الأمن والاستطلاع في لبنان، وهو قال انه وجد نفسه مصلحاً بين مطارنة وخوارنة، وأخذ ينتقل من كنيسة الى مطرانية الى بطريركية ويحضر قداديس الأحد، حتى طوى الخلاف، ولعل لهذا الحديث علاقة بمحاولة سمير جعجع اغتيال ايلي حبيقة في كنيسة. مرة اخرى، لبنانيون كثيرون اعتبروا غازي كنعان ممثلاً للهيمنة السورية واليد الثقيلة للأمن، إلا انه لم ير نفسه كذلك، بل اعتبر نفسه بطل السلم الأهلي اللبناني. ودوره فيه اهم انجازات حياته العملية، وبقي لبنان موضوع اتصالاتي الهاتفية معه، فقد كنت انزل في فندق شيراتون، فيتصل بي، لأن هناك مكتباً للأمن في الفندق، ومع ان اهتماماتي عربية عامة فهو دائماً كان يعيد الحديث الى لبنان واللبنانيين. هل يكون غازي كنعان انتحر لأن عالمه اللبناني انهار حوله؟ او يكون دُفع الى الانتحار بعد ان وجد ان هناك من يريد ان يضحي به على مذبح التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس الحريري؟ هل يكون آخر انتحار من نوعه؟ نشر التقرير الدولي لن يرد على هذه الأسئلة وغيرها فوراً، إلا انه سيلقي ضوءاً كافياً لبدء سماع الأجوبة.