منذ عام 1967، التاريخ الذي صدرت فيه رواية"مئة عام من العزلة"، والكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز - مولود في أراكتاكا 1927 - يحتل مكاناً اول مميزاً في بانوراما الآداب العالمية. فحكاية الوحدة التي كانت تتوارثها أجيال عائلة بونديا، في العالم السحري لماكوندو، تنقذ في آن الذاكرة الاسطورية الجماعية في كولومبيا، وترسم بقوة مدهشة الواقع السياسي والاجتماعي في القارة، وفي كثير من دول العالم الثالث خلال عقود في النصف الثاني من القرن العشرين. بعد هذا النجاح العظيم، الذي قل نظيره في تاريخ الآداب العالمية، استمر غابرييل ماركيز في عطائه الانساني، محافظاً في آن على موقعه في القمة، وظلت ملايين الأيدي تمتد الى كتبه التالية، التي لا تكاد تصدر، حتى تترجم بسرعة الى الانكليزية والفرنسية، الايطالية والألمانية. بين عامي 1967 و1992، ظل المجد حليف كل خطوة يقوم بها الكاتب الكولومبي: أصدر روايته الثانية الشهيرة:"خريف البطريرك"التي يعري فيها النظام أو بالأحرى النظم الديكتاتورية والفساد السياسي، وپ"وقائع موت معلن عنه"وأحد أبطالها إبراهيم نصار المهاجر السوري الى كولومبيا، وقد باعت الرواية لدى صدورها خمساً وثلاثين ألف نسخة في نهاية الأسبوع، في مدريد. ونال جائزة نوبل للآداب عام 1981، ووقع مقالات في أهم الصحف الصادرة بالاسبانية مثل"الباييس"المدريدية، - معدل قرائها اليومي اربعمئة الف قارئ - في مقابل مبالغ لا يستهان بها، وانصرف كلياً الى الكتابة، يسافر الى حيث يشاء متى يشاء، من دون أن يقلقه وضعه المادي، بعد أن صارت كلماته تساوي ثروة، وتستقطب ملايين القراء في المدن التي يحتاج انسانها الفكر والثقافة ليبلور انسانيته. كان ماركيز حتى تلك المرحلة قد أصدر خمسة عشر أثراً، ومن بينها:"رائحة الغوافة"،"الحب في زمن الكوليرا"و"العقيد في سردابه"، اثر يتناول فيه الأيام الأخيرة للقائد سيمون بوليفار، الذي كان يناضل من أجل حرية ووحدة اميركا اللاتينية، وپ"اثنتا عشرة قصة مستغربة". بيد أن الحياة لا تعطي دائماً كل شيء، وتأخذ - فجأة بيمينها ما أعطته بشمالها: في عام 1992 يتونقف الكاتب الكولومبي في محطة أولى كئيبة ومقلقة جداً، سيشكل التوقف فيها، انقلاباً مهماً في واقعه ومستقبله: أجرى ماركيز في إحدى مستشفيات لوس انجليس، عملية أولى لاستئصال ورم خبيث في الرئة اليمنى، وبالتالي لم يعد وضعه الصحي يساعده على العيش كما يريد، ويفرض عليه الوقاية من التعب أو الارهاق. وعلى رغم مرضه، وقع غابرييل غارثيا ماركيز، روايات أربع حتى عام 1997:"عن الحب وشياطين أخرى"،"مغامرة ميغيل ليثين مُتخف في التشيلي"،"خبر اختطاف"و"أهرب لأحلم". وكتب سيناريو فيلم واحد فقط،"أوديب رئيس البلدية"، وهو اقتباس عن"أوديب الملك"اثر سوفوكليس، وملاءمة بين الأثر والواقع الكولومبي واللاتيني - الأميركي، كما هو انتاج مشترك اسباني - كولومبي، اخرجه خورخي علي تريانا. وتوقف ماركيز بعد ذلك عن الكتابة، وأصدر في عام 1999، كتاباً يضم كل أعماله الصحافية، وقام بعمل لا يتطلب جهداً كبيراً، وإنما يذكر العالم ان ماركيز ما زال موجوداً في الساحة الأدبية، خصوصاً أن رواياته الأخيرة، لم تعجب بعض النقاد، الذين أشاروا في مقالاتهم، ان العد العكسي بدأ في حياة الكاتب الكولومبي، الذي بدأ يهبط من القمة، التي تربع فوقها طوال خمسة وعشرين عاماً. في منتصف ذاك العام، تأكد خبر اصابته بالسرطان، مجدداً، اذ انه عاد من جديد الى مستشفى لوس انجليس ليجري الفحوصات اللازمة، ويقضي في الفراش ثلاثة أشهر، ليخضع لعلاج سرطان لمفاوي أرهقه، واضطره بالتالي الى ان يغير مجدداً، وفي شكل قاس وحاسم، برنامج حياته كله، ويتخلى طوعاً أو اضطراراً عن القيام بما يحب: الكتابة الصحافية، والتدخل الايجابي لحل النزاعات في بعض المثقفين الكوبيين الذين سجنهم النظام. كان ماركيز قد سحب رصيده من جائزة نوبل، من أحد البنوك السويسرية، واشترى في عام 1999 مجلة"كامبيو"الكولومبية، ليحقق حلماً عتيقاً بامتلاك وسيلة اعلامية خاصة: استقر لهذه الغاية في منزله في بوغوتا، ليهتم بكل أمور المجلة، التي ترأس مجلس ادارتها، فارتفع رقم مبيعها من أربعة عشرة ألف قارئ الى خمسين ألفاً: كان يشرف على كل شيء، يوجه اللغة والأسلوب، ويسهر مع اثني عشر محرراً من الشباب في الساعات الطويلة الأخيرة، قبل اقفال العدد، الذي يحمل طابع الاستقلالية، ومحوره اخباري سياسي عام. كان هذا العمل الصحافي يشكل جزءاً من كفاح ماركيز من أجل الحياة الحرة، الكرامة الانسانية، والسلام في أميركا اللاتينية: أولى المواضيع التي نشرتها المجلة، اختصرت حوار السلام بين حكومة اندريس باستيرنا والقوات المسلحة الثورية الكولومبية، وصورة جانبية أو بالأحرى تعريف جديد بالرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي يقول في كتابه"حياتي"، ان"مئة عام من العزلة"هي الرواية الأفضل المكتوبة في كل اللغات بعد موت فولكنر. ومن أهم المواضيع التي أفردت لها مجلة"كامبيو"صفحات، كانت مقابلة مع الزعيم الفنزويلي هوغو تشافيز، الداعي الى توحيد أميركا اللاتينية، والذي يذكر فعله أو أفعاله بالمبادئ الأخلاقية، والمسؤولية، والتجرد من أي مصلحة شخصية في الحكم. كان ماركيز يستمتع بعمله هذا، الذي يذكره بأيام صباه، حين راسل مجلة أو جريدة"شاهد عيان"، وتنقل في أوروبا، انطلاقاً من مستقره في إيطاليا. بيد ان هذا العمل كان مرهقاً لصحته من جهة أخرى، ولم يعد يستطيع ان يزاوله، بعد أن دخل المستشفى للعلاج من السرطان اللمفاوي، واستقر لفترة قصيرة في مكسيكو، عاشها في عزلة شبه تامة، قبل أن يعود الى لوس انجليس، ليكون قريباً من أطبائه، ومن ابنه غابرييل وأحفاده: قضى في المدينة الأميركية عام 2001، عاد بعده الى مكسيكو حيث استقر نهائياً، مقيماً حواجز لا يستطيع أحد تجاوزها بينه وبين العالم. في منزل"دوبلكس"يغلب فيه اللون الأبيض، تزينه بعض التماثيل، يقضي الكاتب الكولومبي السنين الأخيرة من حياته، محاطاً بعناية المرأة الوحيدة التي عشقها في عمره، منذ كان في الثامنة عشرة، تزوجها في عام 1958، وأنجب منها ولدين: مرسيدس برشا، حفيدة أحد المهاجرين المصريين، انضم اليها الابن الأصغر غونزالو، الذي يساعد أباه في تدقيق بعض المعلومات التي يحتاجها، لكتابة الجزء الثاني من مذكراته، التي تشمل مرحلة ثانية في حياته، تبدأ في عام 1955 وصولاً الى سنة نيله جائزة نوبل للآداب. ويترك غابرييل ماركيز، نهاية المذكرات للحديث عن بعض اصدقائه الذين حكموا في أميركا اللاتينية، ومقرباً من الجنرال البانامي عمر توريخوس، وصديقاً للديكتاتور فيديل كاسترو، الذي أهداه منزلاً فخماً تحيط به حديقة، في منطقة سيبوني، التي كانت من أغنى مناطق هافانا، يسكن فيها الاثرياء جداً، الذين صادر كاسترو ممتلكاتهم بعد الثورة. يضع كاسترو في تصرف الكاتب الكولومبي، سيارة مرسيدس - بنز، كلما أتى الى الجزيرة ليقضي فيها بعض الوقت: رفض ماركيز ان يوقع على الكثير من الوثائق، التي تدين ديكتاتورية"فيديل"، خلال الحملات التي قام بها كتاب لاتينيون - أميركيون، اعتراضاً على سجنه لمثقفين وأدباء كوبيين، وقد أثار موقفه هذا الكاتبة الأميركية الراحلة سوزان سونتاغ، فانتقدته بشدة، كما أدانته الأديبة الاسبانية روزا مونتيرا في كتابها الأخير عن المخيلة"مجنونة البيت". في مكسيكو، يقضي"غابو"سنين حياته الأخيرة بهدوء، ويتبع في نهاره برنامجاً محدداً لا يتغير، وقد أوقف خط الهاتف، وأقفل بابه أمام كل الزيارات، لأنه يدرك بأسى وعمق انه في سباق مع الزمن، ليقول كل ما يريد، وكل ما عنده، قبل أن يجمد القلم في يده الى الأبد. يستيقظ الكاتب الكولومبي باكراً، يمارس بعض الوقت رياضة المشي. يتناول الفطور. يستحم، ويبدأ الكتابة من التاسعة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر. يتناول الغداء وينام القيلولة. بعد ذلك، يطلع على الرسائل الواردة الى بريده الالكتروني، يرد عليها عبر الفاكس، أو بخط يده، ويتصل ببعض الاصدقاء المقربين، مثل الكاتب كارلوس فونتيس، ومديري مكتبي مجلة"كامبيو"في مكسيكو وبوغوتا. في تلك العزلة الهادئة التي يحتاجها، استطاع غابرييل ماركيز، ان يكتب روايته الأخيرة"حكاية مومساتي الكئيبات"، التي أثبت صدورها ان قراء غابرييل ماركيز، ما زالوا أوفياء له: باعت الرواية خلال شهر واحد، نصف مليون نسخة، منها مئتا ألف في اسبانيا، وثلاثمئة ألف في أميركا اللاتينية. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، استطاعت الشركة الأميركية - الشمالية،"ستون فيلدج بكتشر"من ان تقنع الكاتب الكولومبي ببيعها حقوق روايته"الحب في زمن الكوليرا"، مما أتاح له أن يؤمن نحو مليوني دولار أميركي لعائلته، اضافة الى أرصدته المالية الأخرى. لكن الاتصالات بين ماركيز والممثلة الشهيرة المكسيكية سلمى حايك لم تثمر، وكانت شركة فنتانا روزا - أي النافذة الوردية - تسعى لتنقل الى الشاشة، عملاً روائياً، تقوم ببطولته الممثلة اللبنانية الأصل. وحالياً ينتظر قراء ماركيز الذين يعدون بالملايين، ان يصدر الجزء الثاني من مذكراته، الذي لم يحدد الكاتب الكولومبي موعداً لصدوره بعد.