لا احد يدري منذ متى لم تأت المطربة الراحلة، اللبنانية الأصل، الى لبنان. كانت مقيمة في القاهرة منذ منتصف الأربعينات من القرن الماضي، وبقي اسمها حاضراً على رغم قلة اغانيها. إنها لور دكاش، صاحبة الصوت الذهبي الجميل الذي عبر سماء الفن العربي كشهب رائع بأغنية واحدة هي"آمنت بالله"، وتمكنت من الوقوف بثبات وعزم امام نجوم مصر تلك الأيام. وكثيراً ما رويت حكايات عن حضورها الغنائي المؤثر في ما حولها ومن حولها آنذاك، على رغم قلة اغانيها. وهذه الملاحظة ضرورية مرتين، ذلك ان شيوع اسماء المغنين والمغنيات يتم بشيوع اغانيهم المتعددة والمتوالية. اما لور فلم تقدم سوى اغان معدودة بصوت كبير وهجرة قاطعة من لبنان الى القاهرة لأكثر من ستين عاماً دفعة واحدة. ولو ان نشاط لور دكاش الغنائي في القاهرة كان واسعاً، لأمكن اعتبار ذلك تعويضاً عن غيابها عن لبنان. لكن نشاطها كان مقتصراً على مساحة ضئيلة، بين الفيلم الذي شاركت فيه عام 1946 والفيلم الذي اعادت فيه انشاد"آمنت بالله"عام 1994، زمن طويل لا يستطيع المراقب إلا السؤال عن أسبابه الكامنة والتي يبدو انها لن تُعرف، باستثناء جواب يأتي سريعاً: استقرت في مصر وكانت مرتاحة في حياتها. وكانت لور دكاش فنانة تغني وفنانة تلحن. لم يُعرف عن المغنيات قديماً وحديثاً انهن ملحنات. هي كانت ملحنة، وكان عزفها على العود يبزّ عزف الرجال المتمرسين، وكانت تفاخر بقدرتها على تلحين الأغاني مع ان اياً من اغانيها التي لحنتها بنفسها لم تلق انتشاراً او ذيوعاً، وذلك لا يقلل من قيمة ألحانها كما يقول موسيقي لبناني عرفها عن قرب، فالحظ شاء ان تكون الأغنية الأكثر رواجاً لها من تلحين الموسيقار فريد غصن، وفريد غصن ابرز موسيقيي لبنان وأبرز اساتذة آلة العود وله كتب ودراسات في هذا المجال. لور دكاش ولدت عام 1917 في الرابع والعشرين من آذار مارس. يقال انها كانت تحب يوم ميلادها حباً واضحاً ولا تعتبره يوماً عادياً لا لأنها ولدت فيه فقط، بل لأنه اول الربيع، ولأنه في النهاية يمثل الحياة ككل بالنسبة إليها كما كانت تقول. في إذاعة الشرق الأدنى في بيروت، كانت الإطلالة، ثم كان الوجود الفعلي في الإذاعة المصرية. وبين الإطلالة بداية الثلاثينات، والإذاعة المصرية في الأربعينات، وشبه الاعتزال الذي كانت تمارسه من اول الطريق الى آخره. نسجت لور دكاش حول شخصيتها وفنّها ستاراً من الضباب الجميل الذي يقول ولا يقول. هو نفسه ضباب المواهب الكبيرة التي تصطدم احياناً بما يعيق، وتصطدم دائماً بالفرص الصعبة. حتى في الموت لم تطلب لور دكاش العودة الى لبنان، استقرت في تراب القاهرة الذي احبّته ومنحته ثلاثة ارباع عمرها. ولعل اغرب ما في الأمر انك لو سألت عنها فنانين لبنانيين عاصروها نسبياً، او اقاموا في مصر لسنوات، لكان الجواب، انهم لا يعرفون عنها شيئاً! ثمانية وثمانون عاماً عاشت لور دكاش. لماذا طلّقت بلدها كلياً؟ لماذا كان فنّها سراً بلا ضجيج، واعتزالها سراً بلا ضجيج؟ وهل كان منزلها هو الأكثر حميمية والحضن الدافئ الذي يقي برد"الخارج"؟ ولماذا ابتعدت عن الإعلام حتى عندما بات الإعلام يبحث عنها وعن مثيلاتها من الكبيرات اللواتي يكشفن حقائق الفن؟ هل عاشت لور دكاش وماتت كأنها لم تعش ولم تمت؟