المناورة التي أقدم عليها وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي لتغيير القوانين الداخلية للحزب الديغولي الحاكم، هدفها تمكينه من فرض نفسه مرشحاً عن اليمين في انتخابات الرئاسة الفرنسية المقبلة 2007. وكان تولى رئاسة الحزب بعدما اضطر رئيس الوزراء السابق آلان جوبيه، لسوء حظه، للاستقالة نتيجة حكم قضائي صدر بحقه. وجوبيه الذي يصفه الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي تربطه به صداقة وثيقة، بأنه"الأفضل بيننا"، رجل دولة بكل معنى الكلمة. ولولا الحكم القضائي الذي جعله يجمّد نشاطه السياسي، لكان بمثابة الوريث الشرعي للرئيس الفرنسي. ويسعى ساركوزي عبر مناورته الحزبية الداخلية الى دفع الحزب الى اعتماد نمط من الانتخابات الحزبية، على الطريقة الأميركية لفرض نفسه كخيار وحيد للترشيح اليميني سنة 2007. الا أن فرنسا ليست الولاياتالمتحدة، ومناورة ساركوزي الطامح للرئاسة قد يكون مصيرها الفشل. فساركوزي بدأ يردد في وسائل إعلامية موالية له، أن جوبيه وأصدقاءه سيؤيدونه، على رغم ان هذا مستبعد. إذ ان جوبيه أكد من كندا حيث يقيم حالياً، انه لن يحدد أي موقف من هذا وذاك طالما هو بعيد عن فرنسا. وبعد أن كانت شائعات ترددت في كل الأوساط عن خلاف بين جوبيه ورئيس الحكومة دوفيلبان، تبين أن لا اساس لها من الصحة. فعندما زار جوبيه وزوجته باريس قبل حوالى شهرين، أمضيا عطلة نهاية الاسبوع مع دوفيلبان وزوجته في لالنترن، مقر اقامة رؤساء الحكومة في فرساي، كما تناولا العشاء مع شيراك وزوجته. وعلى رغم أن دوفيلبان ليس نائباً، فهو رئيس للحكومة ويتحمل مسؤوليات الحكم في واحدة من أصعب فترات فرنسا. وبخلاف ساركوزي، فإن دوفيلبان يعمل بهدوء ويكرس كل جهوده لتنفيذ وعوده للشعب الفرنسي بقدر ما تسمح له الامكانات الصعبة، وعلى رغم انه لم يقل يوماً انه يحلم بالرئاسة أو يكرس جهوده لها، فهو انطلاقاً من موقعه، الوريث الطبيعي لشيراك. وعلى عكس ما يعتقد ساركوزي، فوفاء شيراك سيكون لمصلحة دوفيلبان، خصوصاً وأنه حسن صورته لدى النواب الفرنسيين، الذين كانوا لا يؤيدونه، وتولى مسؤولية الحكم بعد رفض الشعب الفرنسي للدستور الأوروبي، وواجه بقدرة انفجار أزمة الضواحي واعتمد نهجاً وخطاباً أكثر انسانية من وزير الداخلية، وراعى الشباب الفرنسي من أبناء الهجرة وأبدى تحسسه بظروف معيشتهم الصعبة. في المقابل فخطاب وزير الداخلية ونهجه ينطويان على حدة مماثلة لتلك التي يتبعها جان ماري لوبن. وساركوزي مدرك لشعبية لوبن في بعض الأوساط ويريد استقطابها. وخطاب ساركوزي محبذ من قبل الشباب المطالب بتغيير جذري في فرنسا وعند الفرنسيين الميالين لليمين المتطرف. لكن التغيير الجذري في فرنسا لن يأتي على غرار ما حصل في بريطانيا في عهد رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر، التي أنهت سلطة النقابات، من أجل النهوض بالاقتصاد البريطاني من الانهيار الذي كان اصابه. فالنقابات في فرنسا ليست المشكلة الوحيدة، اذ ان المشكلة الحقيقية تكمن على صعيد ذهنية الفرنسيين الذين اعتادوا العيش على حساب الدولة. وهذا واقع لا يمكن أن يغيره لا ساركوزي ولا سواه، لأن المكاسب الاجتماعية تُعد حقاً يرفض أي مواطن فرنسي المساومة بشأنه. ووعود ساركوزي المتعددة، بالنسبة الى الأمن والتحرير الكلي للاقتصاد والقطيعة مع الماضي، لن تؤدي سوى الى اثارة اعجاب الإعلام الاميركي والبريطاني، لأنها تندرج في اطار النهج الاميركي. لكن فرنسا ليست الولاياتالمتحدة ولا بريطانيا، ولدى المجتمع الفرنسي خصوصيات من الصعب قلبها أو تغييرها جذرياً على غرار ما يعد به ساركوزي. أما على الصعيد الدولي، وفي حال توليه الرئاسة، فإن استقلالية فرنسا حيال السياسة الأميركية التي ظهرت عند رفض شيراك ووزير خارجيته آنذاك، الحرب الأميركية على العراق سيكون مصيرها الزوال. فعندما برز الخلاف الفرنسي - الأميركي حول العراق، كان ساركوزي يستغرب موقف فرنسا من الحليف الأميركي، لكنه عدل موقفه عندما وجد أن الرأي العام الفرنسي مؤيد لموقف شيراك ودوفيلبان. وقام ساركوزي بأول زيارة له الى الشرق الأوسط، بصفته رئيساً لحزب الاتحاد، متوجهاً الى اسرائيل ومؤجلاً زيارته الى المناطق الفلسطينية الى فترة لاحقة. ولا شك ان توليه للرئاسة الفرنسية سيكون بمثابة صدمة كبرى، لكن هذا الاحتمال يبدو غير مؤكد على رغم التكهنات الصحافية الفرنسية الموالية له والتكهنات الصحافية الاميركية. فقبيل الانتخابات التي تنافس فيها رئيس الوزراء ادوار بالادور وشيراك، كانت التكهنات تشير الى هزيمة الأخير لكن النتائج جاءت مخالفة، والتكهنات المتداولة حالياً قد تظهر بدورها انها خاطئة وهناك تطورات كثيرة قد تطرأ. والرهان ما يزال مبكراً واحتمال تغلب دوفيلبان ما يزال وارداً بقوة.