ليست الانتخابات المصرية واقعة منعزلة عما حولها. فپ"حماس"تتصاعد شعبيتها في فلسطين القديمة والجديدة. والإخوان في الأردن لم يضعفوا على رغم جفاء النظام لهم وعلى رغم انقساماتهم. وهيئة علماء المسلمين بالعراق، الحديثة التكوين، تكاد تجمعُ هي والحزب الإسلامي، أهل السنّة بالعراق من حولها، ولا نعرفُ الكثير عن الحزبيات الإسلامية في سورية وليبيا وتونس، لكن هناك إشارات الى جدية الحركة الإسلامية هناك. ونعرف أن حركة العدل والإحسان بالمغرب تستطيع - لو سُمح لها بخوض الانتخابات - أن تصل الى ما وصل اليه الإخوان المصريون وأكثر - ومع ذلك هناك 48 إسلامياً في البرلمان المغربي، ممن أظهروا"تلاؤماً"أكبر من الشيخ عبدالسلام ياسين. وعلى رغم ما جرى في الجزائر ولا يزال جزئياً جارياً، فإن الإسلاميين المعتدلين أو غير المؤيدين للعنف الموزعين على حركات وأحزاب عدة، لديهم ثلث المقاعد في البرلمان الجزائري. وهناك مسرحٌ ما حظي بالتفاتٍ كبير هو المسرح السعودي. ففي الانتخابات البلدية هناك، وبخاصة في المدن، نجح متدينون سلفيون ذوو سُمعة أخلاقية حسنة. والإخوان المسلمون السودانيون، الذين ضُعفوا منذ الستينات بعد انشقاق الترابي وابتعادهم من العمل السياسي المباشر، عادوا يحظَون بتقدير الناس والتفافهم حولهم. وكنت في دراساتي طوال التسعينات قد ربطت"صعود"الإسلام الأصولي وليس ظهوره بأمرين اثنين: موقف النظام السياسي من المؤسسات الدينية التقليدية، ومدى الحرية في الحِراك السياسي في البلد المعني. في الأمر الأول لاحظت انه في البلدان التي جرى فيها تهميش المؤسسة الدينية أو الغاؤها، كان الصعود الأصولي سريعاً وعنيفاً في جزء منه، وفي البلدان التي جرى فيها استتباع المؤسسة الدينية التقليدية للنظام وليس إلغاؤها، هناك حركة أصولية قوية، لكن لم يحصل تمرد شامل أو جزئي بل أحداث عنف منعزلة. أما في الحال الثالثة: الحيادية من جانب النظام السياسي تجاه المؤسسة الدينية إما لعدم الحاجة الملحة اليها أو للخشية من العواقب، فإن تلك البلدان ما ظهر فيها ثوران أصولي كبير، ويغلب على الحركات الإسلامية فيها الاعتدال على شيء من الضعف. بيد ان هذه"النمذجة"Typology لها مشكلاتها أيضاً. فالنظام اليمني مثلاً ما تعرض للمؤسستين الدينيتين الزيدية والشافعية، بل الأحرى القول انه كانت هناك مجاملة للمؤسسة الدينية السنية، للزعم بأن المؤسسة الدينية الأخرى لها علاقة بالإمامة البائدة! ومع ذلك فقد ظهر ثوران أصولي لدى الشافعية باختراقاتٍ سلفيةٍ واسعة، ووصل الأمر الى المسرح الزيدي كما يبدو من تمرد الحوثي الأخير. والشرط الثاني من شروط الصعود الأصولي: الحياة السياسية والحزبية في البلد المعني، له أيضاً مشكلاته. فقد ذهبت في كتابيَّ: سياسيات الإسلام المعاصر 1997 والصراع على الاسلام 2004 الى أن البلدان العربية التي فيها حياة حزبية تعددية وحرة ولو جزئياً، لا تقوى فيها الأصولية، وإنما تقوى وتتمدد في البلدان التي لم تشهد تجربة سياسية تعددية، أو أُزيلت تلك التجربة بعد بدئها. وهذا ينطبق فعلاً على بلدان عربية كثيرة، لكنه لا ينطبق على المغرب، ثم على الأردن ومصر، بدرجات متفاوتة. فالأحزاب السياسية المغربية كانت دائماً قوية ومتعددة، وبخاصة الاستقلال والاتحاد الاشتراكي وشراذم اليسار والتنظيمات ذات الخلفية الإثنية أو الجهوية. ومع ذلك فقد صعد الإسلام الأصولي بالمغرب وتسيَّس على رغم الإجماع على الملك، وعلى رغم التعددية الحزبية والسياسية. وهكذا فإن الأصولية الإسلامية ما عادت"ظاهرة"تابعة لشروط معينة يمكن استقراؤها بسرعة وسهولة، وشأنها في ذلك شأن سائر الظواهر الاجتماعية والتي ليست لها علة واحدة أو سبب واحد. ويمكن الحديث طبعاً عن عواصف الحداثة ومتغيراتها. لكن ذلك لا يعني الشيء الكثير بسبب عموميته. وإن يكن ظهور الأصوليات في سائر الأديان والثقافات إشارة الى وجود"عامل مشترك"وراء الصعود الديني والخصوصيات الثقافية في سائر أنحاء العالم. حققت حركات الإسلام السياسي نجاحات باهرة في العقدين الأخيرين على مستويات عدة. أول تلك المستويات: اكتساب تأييد الطبقات الوسطى الصغيرة على حواشي المدن والبلدات الكبيرة والمتوسطة الحجم في سائر البلدان العربية والإسلامية. وهذه الفئات ظهرت لديها موجات تديّن جارفة خلال العقود الثلاثة الأخيرة لأسباب عدة. والنزوع الاحيائي في التاريخ الإسلامي القديم والحديث معروف ومعهود. لكن أكثر الفئات استفادة منه في العادة هي الحركات الصوفية. وقد أفادت منه هذه المرة أيضاً، لكن لدى الفئات الوسطى والكبيرة المرتاحة مادياً أكثر. وأفادت من الإحياء الحالي في شكل رئيس، كما سبق القول، الحركات التي سميناها أصولية، ليس لأنها تعود الى"الأصول"فعلاً أو رمزاً فقط، بل ولأنها تملك أُطروحة محددة تؤسس عليها كل شيء: الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. ولا أريد العودة هنا للتحليل الذي كررته كثيراً حول ظهور النزوع الإحيائي في عشرينات القرن الماضي، وكان ذا ميول تربوي صوناً للهوية، ثم تسيسه التدريجي نتيجة ضغوط الداخل والخارج، وصولاً الى الاسلام السياسي المعاصر. أما ثاني المستويات والذي حققت فيه حركات الإسلام السياسي نجاحاً، فهو ظهور التيار الرئيسي Main Stream وتبلوره في مطلع الثمانينات. وقد بدأ هذا التطور في أواخر الستينات عندما اتجهت فئات شابة في السجون للانفصال عن"مسالمة"شيوخ الأخوان تحت وطأة الظروف القاسية، والحرب الباردة، ورؤى المودودي وسيد قطب. وما أمكن التمييز في السبعينات بين التوازنات المختلفة الى أن قتلت جماعة متطرفة منفصلة الرئيس السادات عام 1981، فظهر انه لا علاقة للاخوان التاريخيين بذلك كله، وطوروا عبر الثمانينات أفكاراً وتكتيكات للدخول الى المجال السياسي بالمداورة والمناورة والتسلل بعد أن تعذر عليهم الحصول على مدخل شرعي عبر حزب سياسي يعترف به النظام. وهذا التطور للاتجاه السلمي، والميل للتعاون مع الحركات والأحزاب الأخرى ظهر أيضاً لدى الأحزاب الإسلامية الأخرى. فالاخوان المسلمون في سورية تمردوا على النظام بين عامي 1977 و1982، ثم مالوا للمسالمة في أكثريتهم، وتواصلوا جزئياً مع النظام أيام الرئيس حافظ الأسد، وأصدروا من لندن على أي حال! بيانات عدة شديدة الاستنارة والليبرالية والفهم للمسألة الوطنية. وصمد الإخوان المسلمون الاردنيون ضمن المسالمة والانفتاح على رغم الضغوط التي تجاذبتهم بسبب خصوصية علاقتهم بالنظام الأردني من جهة، وخصوصية علاقتهم بحماسة من جهة ثانية. إن هذا الانجاز للتيار الرئيس، أي التلاؤم بقدر معقول مع الظروف السياسية السائدة، ما أنقص من شعبية حركات الإسلام السياسي لدى الفئات الشعبية التي تدعمها منذ السبعينات من القرن الماضي. فقد تفهم الجمهور الضرورات الحاكمة، وأراد مساعدة الإسلاميين على الانفصال عن جماعات العنف والتطرف. بيد أن هناك مستوى ثالثاً من مستويات التغيير أو عدمه والمتمثل في التطور الفكري والسياسي لحركات الإسلام السياسي. إذ لا تزال الرمزيات وشعائر الهوية متحكمة بالتوجهات العامة لتلك الحركات. وهكذا ستأتي مشاركتها الممكنة في السلطة ليس بسبب أُطروحاتها المتقدمة، بل بسبب شعبيتها الكبيرة. ولا يستند هذا الرأي الى نزعة طليعية أو ثورية لدي، بل الى طبيعة المشكلات التي تواجه أمتنا ودولنا: الحريات العامة، والتنمية، وصَون الوجود الوطني والقومي. وليست لدى حركات الإسلام السياسي أطروحات مقنعة لمواجهة هذه المشكلات. هناك طبعاً الحرص المتميز على مسألة السيادة وصون الوجود. وهناك الشعبية الكبيرة التي تُعين عندما تكون هناك برامج جريئة وغير شعبية في العادة للانضباط والتغيير. لكن هذه الأمور تخضع لعوامل معقدة يعرفها أهل الرؤى والدراسات الاستراتيجية. لقد انفتحت نافذة محددة للتغيير من طريق الاسلام السياسي. وأياً تكن شكوكنا ومشكلاتنا مع هذه النافذة، فلا مخرج بادياً غيرها، وأي شيء خير مما نحن فيه. ولله الأمر من قبل ومن بعد.