سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"المكتب الثاني حاكم في الظل" كتاب عن العلاقات الاستخباراتية بين سورية ولبنان . صفع الضابط اللبناني الفدائي الفلسطيني الموقوف فقال مرتبكاً : أنا ياسر عرفات ! 2 من 4
تتابع"الحياة"نشر أجزاء من كتاب الزميل نقولا ناصيف"المكتب الثاني، حاكم في الظل"دار"مختارات" الذي يتناول سيرة جهاز الاستخبارات العسكرية اللبنانية بين عامي 1945 و1982 رجالاً وأحداثاً ووثائق ومحاضر. في الحلقة الثانية اجزاء من فصل من مرحلة رئاسة غابي لحود للشعبة الثانية في عهد الرئيس شارل حلو، وفيه رواية عن اعتقال الاستخبارات اللبنانية ياسر عرفات و12 من رفاقه الفدائيين في طريق عودتهم من الاراضي المحتلة بعد تنفيذهم عملية ضد العدو. عام 1966 كانت الحدود اللبنانية - الإسرائيلية هادئة تقريباً في ظلّ اتفاق الهدنة بين لبنان والدولة العبرية الموقّع في 23 آذار 1949كارس في رأس الناقورة. وعزّز هذا الاستقرار التزام لبنان تعليمات خطية أصدرتها القيادة العربية الموحّدة المنبثقة من مجلس الدفاع العربي المشترك برئاسة الفريق علي علي عامر اثر القمة العربية الأولى في القاهرة في 13 كانون الثاني يناير 1946، وقضت بمنع تسلّل الفدائيين الفلسطينيين من الأراضي العربية المتاخمة لإسرائيل لتنفيذ أعمال عسكرية، خشية ردود فعل اسرائيلية تستهدف المناطق السكنية المقابلة. كانت القمة العربية اتخذت ثلاثة قرارات غاية في الأهمية جعلت لبنان شريكًا غير مباشر في مواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل، من غير أن ترتب عليه تنازلات مسبقة. لكنّها أعدّت ضمناً لما كان ينتظره بعد حرب الأيام الستة عام 1967: أولها إنشاء قيادة عربية موحّدة للدول المحاذية لإسرائيل وهي مصر وسوريا والأردن ولبنان، وثانيها عدم دخول جيوش عربية لبنان إلاّ بموافقة السلطات اللبنانية مع تقديم دعم للدفاع الجوّي اللبناني، وثالثها إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني. غير أنّ القمة العربية وافقت على طلب لبنان عدم السماح بإنشاء قواعد للجيش المستحدث على أراضيه ومنع كلّ فلسطيني يلتحق به من دخول الأراضي اللبنانية. في الأول من كانون الثاني 1965، ومن مكتب الأب الروحي لإنشائها، رئيس الاستخبارات العسكرية السورية العقيد أحمد سويداني في دمشق، أُعلِن البيان الأول ل"قوات العاصفة"جناحاً عسكرياً لحركة"فتح"، التنظيم الفلسطيني المسلح الأول لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ نكبة 1948، وكانت"فتح"ظهرت إلى العلن في تشرين الأول أكتوبر 1957. وكشفت"العاصفة"من بيروت، للمرة الأولى، بدء مقاومتها المسلحة للاحتلال الإسرائيلي بإعلانها مهاجمة محطة ضخّ المياه في مستوطنة يهودية في أمّ القطن وتدميرها. حتى ذلك الوقت كانت ثمّة نواة لفدائيين فلسطينيين مقيمين في لبنان أو يفدون إليه من سورية، يقومون بنشاطات محدودة انطلاقًا من الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. وخلافًا لما كانت عليه حالهم في مصر وسورية والأردن منذ منتصف الخمسينات حيث أُخضِعوا لإمرة الاستخبارات العسكرية، كانت نشاطاتهم، القليلة التأثير والفاعلية في لبنان، مستقلة عن إمرة الاستخبارات اللبنانية التي اكتفت بمراقبتهم وتقييد تحركاتهم عند الحدود الدولية. وقصر الفدائيون نشاطاتهم أول الأمر على التسلّل وشن هجمات عسكرية صغيرة داخل إسرائيل، بتفجير عبّارة أو وضع عبوة ناسفة أثناء مرور دورية أو جمع معلومات عن الدولة العبرية. وكانت القيادة العربية الموحّدة حضّت على بناء الجيوش العربية النظامية تمهيداً لحرب مفترضة مع إسرائيل، على أن يكون أيّ تسلّل فلسطيني إلى الأراضي المحتلة بعلم السلطات العربية المحلية، أو أن تُنفّذ الهجمات من داخل الأراضي المحتلة. ولم تشأ الدول العربية في ذلك الوقت حرباً غير متكافئة مع إسرائيل، ولم تكن تريد أن تكون جيوشها النظامية هدفًا لاعتداءات إسرائيلية بسبب مغامرات يقدم عليها الفدائيون. كانت تلك حجة لبنان وجيشه الصغير القليل العدد والضعيف التسلح. ولم يحل ذلك دون حصول هجمات صغيرة تجاوزت إرادة السلطة اللبنانية وقدراتها على مراقبة الحدود وضبطها. محمد القدوة في 20 تموز يوليو 1966 أوقف آمر سرّية مشاة عند الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، في بلدة عيتا الشعب في قضاء بنت جبيل، الملازم أول سعد حداد حظيرة مسلحين فلسطينيين بلغ عددهم 13 مزوّدين بنادق وقنابل كانوا يعبرون من الأراضي المحتلة إلى داخل الأراضي اللبنانية. سلم حداد الموقوفين الى رئيس الفرع الخارجي عبّاس حمدان، فأوقفهم في سجن ثكنة طانيوس الحلو في المصيطبة بيروت، وأجرى معهم تحقيقًا لم يكشف عن أيّ شأن خطير. في اليوم الثالث لتوقيفهم، حضر رئيس فرع الأمن الداخلي سامي الخطيب إلى الثكنة وأجرى ليومين متتاليين تحقيقًا معهم لم يفضِ بدوره إلى معلومات محدّدة. سأل الفلسطينيين ال13 عن رئيسهم، فرّد عليه أحدهم، وكان قصير القامة وذا شفتين غليظتين، بلهجة مصرية، أنّ المجموعة تضمّ فدائيين ينشطون ضدّ إسرائيل من تلقائهم وأنّ لا رئيس لهم. سأله عن اسمه، فأجاب:"محمد القدوة، رقيب أول في الجيش السوري". بعد أيام بلغ إلى رئيس فرع اللاجئين الفلسطينيين في الشعبة الثانية الملازم أول فريد بو مرعي من أحد مخبريه الفلسطينيين أنّ مسؤولاً فلسطينيًا مهمًّا لا يعرف اسمه موقوف لدى السلطات اللبنانية. اتصل بو مرعي بالفرع الخارجي وسأل عن صحة ذلك، فأفيد بأنّ المعتقلين 13 فلسطينيًا متسلّلاً إلى الأراضي اللبنانية. اتصل بو مرعي بحمدان وسأله عن إمكان وجود المسؤول بينهم، فأكد الأخير أنّهم زمرة فلسطينيين كسواهم من المتسلّلين إلى إسرائيل لتنفيذ هجوم فدائي. إلاّ أنّ بو مرعي ذهب إلى رئيس الشعبة الثانية غابي لحود وأعلمه بالإخبار الذي لديه، طالبًا الإذن بالتحقيق مع هؤلاء كون لا صلاحية له في مراجعة أمر هو من اختصاص فرع آخر في الشعبة الثانية. فأجابه لحود:"إذهب وتسلَّ بهم". بعد وقت قصير، في ذلك الأحد، كان فريد بو مرعي في ثكنة طانيوس الحلو، في سجن كبير في طبقة تحت الأرض جُمِع فيهم الموقوفون. بعد حصوله على لائحة بأسمائهم عرضهم واحدًا واحدًا، وسألهم مجدّدًا عن أسمائهم وأسماء عائلاتهم ومناطق إقامتهم. في حصيلة تحقيق لم تغص أسئلته في التفاصيل، خرج بانطباع أنّهم متسلّلون عاديون لا يحملون هويات ويدّعون أنّهم جنود سوريون بغية تضليل التعمية عن أسمائهم الحقيقية. وعزّز هذا الاعتقاد أنّ المخبر كان يجهل اسم المسؤول الفلسطيني المهمّ. في اليوم التالي راجع بو مرعي المخبر، فأكد له صحة معلوماته وأضاف إليها، نقلاً عن فلسطينيين عائدين من سورية، أنّ ثمّة بلبلة في الأوساط الفلسطينية والسورية عن توقيف الاستخبارات اللبنانية شخصية فلسطينية مهمّة، فقرّر بو مرعي إجراء تحقيق آخر مع الموقوفين. جمعهم مجدّدًا في السجن نفسه وخاطبهم:"إنّ بينكم مَن يخفي اسمه الحقيقي. وأنا أتعهّد لمَن يكشف لي اسمه ألاّ تتخذ في حقه إجراءات صارمة، وإلاّ فسيتحمّل وزر الإدلاء بمعلومات كاذبة". وطرح عددًا من الأسئلة لاستكشاف ردود فعلهم. لكنّ عنادهم في التزام الصمت حمل بو مرعي على اختيار خمسة منهم اشتبه في أنّ الشخصية المهمّة قد تكون أحدهم، وذهب بهم إلى مكتبه وأجرى معهم، في اليوم نفسه بعدما كانت انقضت عشرة أيام على توقيفهم، تحقيقًا جديدًا خلص منه إلى اختيار ثلاثة تحقّق أنّ بينهم ضالته، ثمّ أعاد الآخرين إلى الثكنة. وباشر تحقيقًا مفصّلاً استمرّ طوال النهار مع الثلاثة حتى وصل إلى الفلسطيني الأخير منهم الذي أصرّ على أنّه"الرقيب أول في الجيش السوري محمد القدوة". لم تفارق الشكوك الضابط اللبناني في الرجل، إذ بدا له أنّ ثمّة شيئًا ما يميّز هذا الفلسطيني. وبغية تبديد الالتباس، طلب بو مرعي بندقية من أحد حرّاس مكتبه واقترب من القدوة وقال له بعدما أفرغها من طلقاتها:"أنتَ رقيب أول في الجيش السوري وأنا ضابط. سأمرّ من أمامك فماذا تفعل؟". أجاب:"أؤدّي التحية". قال:"إفعل ذلك". أمسك الفلسطيني الموقوف البندقية وأدّى التحية لبو مرعي الذي أيقن أنّه ليس سوريًا. فقال له بعد صمت قصير:"أدّيت التحية على الطريقة الإنكليزية فيما يؤدّيها الجيش السوري على الطريقة الفرنسية مثلنا في لبنان، لأنّ البلدين كانا تحت الانتداب الفرنسي وكان الجيشان اللبناني والسوري في عِداد الجيش الفرنسي". فعقّب الفلسطيني:"صحيح، لكنّني في أيام الوحدة بين مصر وسورية أجريت تدريبي العسكري في مصر". كان الجواب ذكيًا ومقنعًا لكنّه لم يكن كافيًا. أعد الضابط اللبناني مئة سؤال طرحها على الموقوف، عن اسمه وميلاده ووالديه وعائلته وأقاربه ومكان إقامته ودروسه وعمله ونشاطاته. وكان يُدوّن الأجوبة على أوراق. بعد الانتهاء منها أعاد طرح الأسئلة نفسها عليه فلاحظ أنّه أخطأ في بعضها. وتأكد أنّ الفلسطيني يكذب. فقال له:"قل لي مَن أنت وكرامتك محفوظة؟ أنا لست عدوًّا لك، وقضية فلسطين نؤيّدها ولا نتخلى عنها. مَن أنت؟ لا أريدك أن تتحمّل مسؤولية هذا الصمت؟"، فأجابه:"أنا الرقيب أول في الجيش السوري محمد القدوة". ردّ عليه بعصبية:"أنت تكذب عليّ مجدّدًا، وكفى"، وصفعه. في تلك اللحظة قال له الفلسطيني:"هل يمكنني الجلوس؟". كان التعب قد بدا عليه بعد ساعات طويلة من التحقيق المضني، فردّ بو مرعي:"لا، قلْ لي مَن أنتَ أولاً، ثمّ تجلس"، فقال:"أنا ياسر عرفات". وقع الاسم على رئيس فرع اللاجئين وقْع الصاعقة. اذ كان ينتظر اسمًا آخر سوى ما قاله الرجل الواقف أمامه بوهن. وشأن معظم ضبّاط الشعبة الثانية وقيادة الجيش والسياسيين اللبنانيين، كان سمع مراراً باسم ياسر عرفات بصفته رئيسًا لتنظيم قوّات"العاصفة"الفلسطيني المسلح من دون أن يعرفه الرجل الذي قاد منذ النصف الثاني من الخمسينات أعدادًا متزايدة من الفدائيين إلى تنفيذ عمليات داخل إسرائيل بعدما عمل سنوات على تسليحهم. حتى ذلك الوقت كان عرفات، المجهول أيضاً من عدد من أجهزة الاستخبارات العربية، أشبه بلغز شائع، وكان في اعتقاد الاستخبارات العسكرية اللبنانية وغابي لحود خصوصاً، انه من صنع إسرائيل. بعدما استعاد بو مرعي هدوءه قال لمحدّثه متحاذقًا:"أعرف أنّك ياسر عرفات، وأعرف كم هو عدد شعر رأسك قبل أن تسقط واحدة منها. فلماذا تخفي هويتك؟ تفضّل واجلس، لسنا ضدّك ولا ضدّ قضيتك، وستُعامَل من الآن فصاعدًا كياسر عرفات وكرامتك محفوظة. لا أعرف سبب تخفّيك حتى اضطررنا إلى معاملتك كموقوف. أنت شخصية فلسطينية مهمّة ونحترمها، وبمقدار ما تهمّك فلسطين يهمّنا نحن لبنان، ولا نريد أن نخسره من دون أن نكسب فلسطين". وأضاف من غير أن يقاطعه عرفات المرتبك متأثرًا بالصفعة:"أنتَ تعلم أنّ الهجمات ضدّ إسرائيل تتعارض مع مصلحة لبنان وتعليمات القيادة العربية الموحّدة التي تحظرها، وتتناقض مع قرارات الجامعة العربية التي نلتزمها. ببساطة أريد المحافظة على لبنان لا فقده". اتصل بو مرعي بلحود وأخبره بهوية الشخصية المهمّة. فوجئ رئيس الشعبة الثانية وقال له:"إئتِ به إلى مكتبي فورًا". واتصل بقائد الجيش العماد إميل بستاني ورئيس الأركان الزعيم يوسف شميّط وأبلغهما بالأمر. اصطحب بو مرعي القائد الفلسطيني ورفاقه إلى وزارة الدفاع. في الطريق قاد السيارة وجلس عرفات قربه وخلفهما مرافق. لم يُكبّل المسؤول الفلسطيني الذي كان يرتدي بزته العسكرية من دون كوفيته، وعومل كقائد ثورة. حوار التعارض في مكتب لحود كان المشهد مثيرًا. بعض أركان الشعبة الثانية في انتظار ياسر عرفات: سامي الخطيب وعبّاس حمدان ومعهما الرئيس السابق للشعبة الثانية العميد أنطون سعد الذي كان في زيارة شخصية لخلفه، فاستبقاه ليحضر لقاءً مهمًّا. دخل عرفات مكتب رئيس الشعبة الثانية، فيما لبث رفاقه في غرفة جانبية. بعد مصافحة خالية من الانفعال دار حوار بين لحود وعرفات، وقد بدا على الأخير الإحراج. تعارفا للمرة الأولى، ثمّ سلّم عرفات على الضبّاط الذين لزموا الصمت فيما دار حوار بين رئيسهم وعرفات لأكثر من ساعة، ساده الإحترام المتبادل. فأعاد رئيس الشعبة الثانية تأكيد موقف السلطة اللبنانية من هجمات الفدائيين. وقال لعرفات:"نبحث عنك منذ زمن ونريد التعرّف إليك. أنتَ بالنسبة إلينا مفخرة، وهذه المرة الأولى نوقف رئيس منظمة فدائية يقوم بنفسه بهجمات داخل الأراضي المحتلة، وهو شرف لك وإن يكن يخالف القوانين اللبنانية. لا نشكّك في وطنيتكم. ولكن أيّ ضمان لعدم استغلال هذه المشاعر، وكيف في وسعكم الاقتناع بأنّكم تموتون في سبيل أعمالكم بينما إسرائيل تردّ علينا نحن؟". وشرح له الإجراءات التي يتخذها الجيش اللبناني ومذكرة القيادة العربية الموحّدة بمنع أيّ أعمال مسلحة عند حدود الدول المحيطة بإسرائيل قبل التنسيق مع السلطات العسكرية المحلية". أجاب عرفات بأنّ العمل الذي يخطّط له ويقوم به"مفيد من أجل المحافظة على معنويات الشعب الفلسطيني، وبغية إشعاره بأنّه يقاوم لاستعادة بلاده المحتلة، مع أنّه يعرف أنّ الأضرار التي يلحقها الفدائيون بإسرائيل ليست كبيرة. ولكن من دون وأفعال كهذه لن تبقى القضية حيّة". فقال له لحود:"نحن مع أعمالك الفدائية ضدّ إسرائيل، ولكن يجب أن تكون بمعرفتنا لأنّ الحدود حدودنا والأرض أرضنا ولدينا عسكريون على طول الحدود، وأنتم بهجماتكم تعرّضونهم للقصف والموت ولردود فعل عسكرية غير متوقعة. نعرف أنّكم مجاهدون، وحتى تتأكد من موقفنا تجاهك، ستأخذون أسلحتكم وذخائركم كاملة. لستم موقوفين ولا مطلوبين. قلتم إنّكم عسكريون في الجيش السوري، وسنسلمكم إلى الجيش السوري". أُعِيدت إلى عرفات ورفاقه أسلحتهم وتقرّر ترحيلهم سريعًا. وأُعِدّت ترتيبات انتقاله في سيارة عسكرية من نوع"بيك أب"إلى ثكنة أبلح، حيث تسلمه رئيس فرع الشعبة الثانية في البقاع الملازم الأول نعيم فرح من غير أن يعرف هوية الرجل الذي يصطحبه سوى ما أبلغه إليه لحود في مكالمة هاتفية:"السوريون يريدونه. رقيب أول في الجيش السوري ورفاقه". قاد فرح سيارته فيما بقي عرفات في سيارة"بيك أب"وضعتها وزارة الدفاع في تصرّفه. ولم يتعارفا على امتداد الطريق البرية بين أبلح وجديدة يابوس. أمّا الفدائيون الآخرون فنقلتهم سيارتان عسكريتان أخريان. عند اجتيازه الحدود اللبنانية - السورية فوجئ فرح بوجود عشرات من ضبّاط الجيش السوري من رتب عسكرية عالية بينهم رئيس الفرع الخارجي في الاستخبارات العسكرية السورية الرائد لويس وردة، ينتظرون عند جانب الطريق، إلى مسؤولين سوريين مدنيين وآخرين فلسطينيين. وبدوا جميعًا على ما لمس الضابط اللبناني في حال قلق قبل أن تصل السيارة التي تنقل الرقيب الأول"السوري". وما أن ترجّل عرفات من السيارة حتى تهافت إليه مستقبلوه السوريون والفلسطينيون، وعانقوه بحرارة أدهشت فرح إلى أن أعلمه الرائد وردة بأنّه ياسر عرفات. الأرض المحروقة بعد حرب عام 1967 أخذ الوجود الفلسطيني المدني والمسلح في التفاقم في لبنان. مذذاك دخل العامل الإسرائيلي في صلب المعادلة اللبنانية. الفدائيون يهاجمون إسرائيل من الأراضي اللبنانية فترد باعتداءات تطاول القرى والبلدات والأحياء المدنية الآهلة في الجنوب عوض استهداف المواقع والقوى العسكرية لإرغام السكان على التذمّر وحملهم على التخلي عن دعم المقاومين. ارتفع مستوى الهجمات الفلسطينية وعددها باطراد ولم تعد تكتفي بتسلّل خاطف وزرع عبوات صغيرة على طريقة حرب العصابات، واقتربت أكثر فأكثر من الاحتراف تنظيماً وتدريباً وامتلاك أسلحة مختلفة. تدريجًا بدأت إسرائيل تغلق حدودًا مع لبنان امتدت إلى 102 كيلومتر هي خط النار في اتفاق الهدنة كانت مفتوحة قبل حرب عام 1967، وتضيّق بذلك على الفدائيين الفلسطينيين سهولة عبور حدود برّية طويلة. فكان أن تضاعفت مسؤوليتا فرع اللاجئين بإدارة فريد بو مرعي والفرع الخارجي بإدارة عبّاس حمدان الذي تقلصت جزئيًا إمكاناته في الحصول على معلومات من داخل إسرائيل بواسطة مخبريه. كان حمدان نجح عامي 1966 و1967 في التعامل مع هؤلاء من داخل الأراضي المحتلة وبينهم فلسطينيون مقيمون في الداخل وآخرون جنود في الجيش الإسرائيلي. ويوم أخبر غابي لحود بسعيه إلى تجنيد إسرائيليين مخبرين لديه لم يصدّقه وخشي من خداعهم الاستخبارات اللبنانية وتضليلها، وشكّك في نجاح رئيس الفرع الخارجي إلى أن تسلّم منه التقرير الأول عن معلومات أبلغها إليه مخبروه اليهود الإسرائيليون والعرب الفلسطينيون المقيمون هناك، وبين هؤلاء مسيحيون ودروز. لم يزد عدد المخبرين الإسرائيليين وقتذاك على عشرة بينهم عسكريون كانوا يخدمون في قيادات عسكرية مهمّة ويتطلعون إلى الحصول على مبالغ مالية إضافية. كان حمدان في الوقت نفسه في حاجة إلى اختبار دقيق استغرق بعض الوقت للتحقّق من جدّية تعاونهم وصحة معلوماتهم وأخبارهم التي تطلّبت كذلك تقاطعًا ضروريًا. اقتصرت صلة هؤلاء بالفرع الخارجي على إرسال المعلومات وتسلّم رواتبهم عبر وسطاء في معظمهم من السكان الفلسطينيين كانوا يتنقلون بين لبنان وإسرائيل ويضطلعون بمهمّة مماثلة لدى الاستخبارات السورية. على أنّ بعضهم افتُضِح تعاونه مع الاستخبارات اللبنانية فحوكم وطُرِد من الجيش الإسرائيلي وسُجِن، فانقطعت الصلة بهم تمامًا. وبعد حرب عام 1967 تضاءل عدد هؤلاء بسبب صعوبة الانتقال بين الحدود التي أضحت تحت مراقبة إسرائيلية متشدّدة. لكنّ حمدان حافظ على عدد قليل من مخبريه داخل الأراضي المحتلة. بدأت ترتسم معالم متدرّجة لمواجهة لبنانية - إسرائيلية في حرب 5 حزيران يونيو. فللمرة الأولى منذ التخطيط الأول للحدود بين لبنان وإسرائيل في 27 كانون الثاني 1951، بعد أقل من سنتين على اتفاق الهدنة بين البلدين، أخذت إسرائيل تنشئ شريطًا شائكًا. حتى ذلك الوقت كانت تتولى مراقبة الحدود بين البلدين دوريات للجيشين الإسرائيلي واللبناني، وكان بعضها يخطئ الطريق في بعض الأحيان ويعبر الحدود، وكان رئيس الفرع الخارجي عبّاس حمدان، رئيس الوفد اللبناني إلى لجنة مراقبي الهدنة اللبنانية - الإسرائيلية بين عامي 1963 و1973، ينقل بانتظام إلى رئيس الشعبة الثانية ومن خلاله إلى رئيس الأركان وقائد الجيش تهديدات كان يسمعها من نظيره الإسرائيلي في اجتماعات اللجنة التي كانت تعقد مداورة عامي 1966 و1976، في الجانب اللبناني في مركز الأمن العام في الناقورة، وفي الجانب الإسرائيلي في مركز للشرطة الإسرائيلية في رأس الناقورة على مسافة أمتار من الحدود الإسرائيلية - اللبنانية. في الاجتماعات كان رئيس الوفد الإسرائيلي العقيد دايفيد نهاري يحذّر حمدان في حضور المراقبين الدوليين من تفاقم الهجمات الفلسطينية المتصاعدة. على أنّ التهديد الإسرائيلي لم يقتصر على نهاري بل تعدّاه في بعض الأحيان إلى جنرال إسرائيلي هو قائد المنطقة الشمالية رئيس الأركان ونائب وزير الدفاع في ما بعد موردخاي غور الذي لمّح مرتين أمام حمدان عام 1967 إلى إمكان اللجوء إلى سياسة"الأرض المحروقة". وكان حمدان ينقل التهديدات إلى رؤسائه ويعود دائمًا برد السلطة اللبنانية إلى الاجتماع التالي للجنة الهدنة، ومفاده:"إنّ لبنان يبذل جهودًا لضبط حدوده، وعلى إسرائيل في المقابل بذل جهود مماثلة لتضبط حدودها". وفي حواره العقيم مع نهاري حيال مسؤولية كلّ من البلدين عن ضبط الحدود لمنع تسلّل الفدائيين، وكان كلّ من الرجلين يعرف سلفًا ردّ فعل الآخر والجواب الذي يعود به، ويسلّمان بعجزهما عن تقديم الحلّ ما خلا الاكتفاء بالسجال وتبادل الرسائل والاتهامات. بسبب ذلك كان ثمّة حوار تقليدي بينهما. يقول عبّاس حمدان لنهاري:"اذا كنتم أنتم غير قادرين على ضبط حدودكم، فحريّ ألاّ نلام نحن على عدم مقدرتنا على ضبطها". فيجيبه محدّثه:"نحن وإيّاكم ملزمون ضبط الحدود من أجل المحافظة على الهدنة واحترام بنودها والحؤول دون انطلاق أعمال عدائية من أراضيكم". وإزاء حوار كهذا كان المراقبون الدوليون يلتزمون الصمت ويقصرون دورهم على ترؤس الجلسة وإدارة الحوار وتدوين المواقف والملاحظات. وعلى رغم تهديدات الدولة العبرية توسّع نطاق القواعد العسكرية الفلسطينية في العرقوب امتدادًا إلى القطاع الأوسط خصوصًا قضاء بنت جبيل، قريبًا من الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، وبدأ الجيش الإسرائيلي يستهدف العرقوب قصفًا وغارات. وبلغت ذروة الانتشار عام 1969 عندما قدّرت تقارير أمنية عدد الفدائيين في العرقوب ب7800 مسلح موزعين على قواعد عسكرية ومقار قيادة ومستوصفات ومستودعات ذخائر ومزوّدين أجهزة لاسلكي وبنادق ومدافع في شبعا وشويّا والهبّارية وراشيا الفخّار وكفرحمام والفريدس وكفرشوبا وحاصبيا، ينتمون في غالبيتهم إلى حركة"فتح"ومنظمة"الصاعقة"والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وجبهة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني، معزّزين برجال استخبارات سورية. بعد حرب الأيام الستة في حزيران 1967 طرأ التحوّل الأول الذي دفع باجتماعات لجنة مراقبي الهدنة اللبنانية - الإسرائيلية في منحى آخر. في 7 حزيران أعلن لبنان إسقاط ثلاث طائرات إسرائيلية بعد غارات جوّية نفّذتها على مواقع للجيش في جنوبلبنان، إحداها من طراز"ميستير"سقطت في مجدل بلهيص قرب كفرمشكي. فسارع الأهالي إلى اعتقال طيارها الذي هبط بمظلته في يحمر، واقتادوه إلى موقع للجيش. بعد ساعات ظهر الطيار الإسرائيلي على محطة التلفزيون اللبناني في مقابلة بالانكليزية أجراها معه حمدان، عرّف فيها عن نفسه بأنّه نقيب في الجيش الإسرائيلي. بولندي الجنسية، وزعم انه طيار استطلاع، بينما تأكد للشعبة الثانية أنّه طيار مقاتل كان يخوض مواجهة مع الطائرات السورية في الأجواء اللبنانية عندما أُسقِطت طائرته. في اليوم التالي 9 حزيران، دُعيَ رئيس الفرع الخارجي إلى اجتماع طارئ للجنة مراقبي الهدنة اللبنانية - الإسرائيلية بناءً على طلب إسرائيلي. في الاجتماع توجه نهاري إلى حمدان قائلاً إنّ ثمّة طيارًا إسرائيليًا أسيرًا لدى السلطات اللبنانية يقتضي تسليمه إلى إسرائيل في أسرع وقت، فأجابه محدّثه اللبناني أنّ حكومته تدرس الموضوع. إذذاك، وبلهجة قاسية قال نهاري:"بحسب اتفاق الهدنة يجب أن نستردّه منكم". وزاد:"هل لا تزالون تعترفون باتفاق الهدنة؟ أريد جوابًا عن ذلك". خرج حمدان من قاعة الاجتماع إلى غرفة مجاورة واتصل بغابي لحود وأبلغ إليه الموقف الإسرائيلي. فطلب إليه رئيس الشعبة الثانية الاتصال برئيس الجمهورية وتزوّد تعليماته. خلال دقائق كان حمدان قد خابر الرئيس الذي أملى عليه خطيًا بالفرنسية الجواب الرسمي اللبناني عن السؤال الإسرائيلي:"إنّنا نحيلك على القرارات الأخيرة التي أصدرها مجلس الأمن ووافقت عليها الدول العربية كلّها". فردّ دايفيد نهاري:"لم أفهم". أراد لبنان بموقفه هذا تأكيد تمسّكه بسريان أحكام اتفاق الهدنة عند الحدود الفاصلة بين البلدين. وبعد ثلاثة أيام سلّم الطيار إلى سلطات بلاده عبر لجنة مراقبي الهدنة. كانت تلك المرة الأولى التي تتهم فيها إسرائيل لبنان بنقض اتفاق الهدنة. مذذاك رفض نهاري، ومن ثمّ خلفه في رئاسة الوفد الإسرائيلي عام 1968، الاجتماع بنظيره اللبناني وجهًا لوجه، وبدأت الدولة العبرية تعتبر اتفاق الهدنة في حكم الملغى من طرف واحد هو لبنان. وتاليًا بات الساري على الطرفين وقف النار ليس إلاّ. وأصبح الوفد اللبناني يجتمع بفريق المراقبين الدوليين في الناقورة ويبلغ إليه شكاويه ضدّ إسرائيل فينقلها المراقبون الدوليون إلى الوفد الإسرائيلي للحصول على جواب، وفي الوقت نفسه يطلع منه على شكاوى الدولة العبرية ضدّ لبنان ويعود بالإجابات إلى الوفد اللبناني. وأضحى الحوار في لجنة مراقبي الهدنة غير مباشر ولا يتعدّى تسجيل مواقف ووجهات نظر يعرفها الطرفان سلفًا. ثمّ كانت مرة ثانية تذرعت فيها الدولة العبرية بما عدّته إلغاء لبنان اتفاق الهدنة معها من طرف واحد. في أيار مايو 1968 أعادت طرح المشكلة بواسطة لجنة مراقبي الهدنة إثر تأكيد رئيس الحكومة عبدالله اليافي أمام تظاهرة شعبية استعداد السلطة اللبنانية"لإعطاء المتطوّعين لتحرير فلسطين سلاحًا من الجيش اللبناني". يومذاك طلب رئيس الوفد الإسرائيلي إلى فريق المراقبين حمل السؤال الآتي إلى حمدان:"هل أعلن لبنان الحرب على إسرائيل؟". وكان جوابه بعد مراجعة الرئيس شارل حلو:"لم يعلن لبنان الحرب على إسرائيل ولم يُسقِط اتفاق الهدنة. وما أعلنه رئيس الحكومة اللبنانية جزء من السياسة الداخلية".