جريمة أخرى معلنة. القتلة معروفون. ولا دولة لتدارك هذا المسلسل الدموي المتمادي. لا جيش، لا أجهزة، لا شرطة، ولا حتى"مقاومة". لكن للقتلة من يتواطأ معهم، من يحرف نظره ليدعهم يمرون، من يتظاهر لدعمهم والتضامن معهم، من يعطل الحكومة ومجلس النواب ليحميهم، ومن يقايض مستقبل لبنان بحرية الحركة لهؤلاء القتلة. اغتالوا جبران تويني. بل جبران سلم نفسه اليهم. كان يعرف انه على"اللائحة". كانت لديه رسالة وقعها ديتليف ميليس تحذره من أنه في موقع متقدم على"اللائحة"، وأن"فرق الموت"تترقبه. قالت الرسالة ان المستهدف الآخر في"اللائحة"هو البطريرك نصرالله صفير. لا شك ان أحد الشهود، أو أحد المشتبه بهم، هو الذي وفر المعلومات للمحقق الدولي. لأن هذه"اللائحة"ليست سوى استكمال للقافلة التي افتتحتها محاولة اغتيال مروان حماده، واستتبعت باغتيال رفيق الحريري ورفاقه، ثم باغتيال سمير قصير وجورج حاوي، ومحاولتي اغتيال مي شدياق والياس المر، مروراً برسائل تحذيرية لعدد من القضاة والشهود، فضلاً عن الإعلاميين. جبران سلّم نفسه الى القتلة، غلبت شجاعته حذره، وغلب حسه بالحرية خوفه على حياته، وغلب التزامه حرصه على سلامته، وغلب توقه لأن يكون في بيروت اتهامه من الأهل والأصدقاء بالتهور. وفور عودته احتل مع رفاقه واجهة البرلمان للمطالبة بمحكمة دولية للنظر في قضية المقابر الجماعية. كان كالعادة صريحاً وجريئاً في تسمية الأشياء بأسمائها، وفي تسمية المسؤولين عن تلك المقابر والمتكتمين عليها باسمائهم. هذه رسالة ارهاب جديدة طارت الى جميع اللبنانيين مع الانفجار الذي أودى بجبران ورفاقه. وكما ان اغتيال رفيق الحريري انذر جميع اللبنانيين بأن أحداً لم تعد له حماية أو مظلة، وأن أحداً لم تعد له حصانة، فإن اغتيال جبران تويني هو تفجير لضغينة باتت مكشوفة، وفي خطب رئاسية، ضد الصحافة والإعلام، وضد"النهار"التي أعطت أمس شهيدها الثاني في انتفاضة الاستقلال. وكما أن اغتيال الحريري كان اشارة الى اقتراب الانسحاب السوري من لبنان، فإن اغتيال تويني هو الاشارة الى أن"فرق الموت"لم تختفِ بل لا تزال حاضرة، وأكثر قوة، كما أنه الخطوة الأولى في مشروع زعزعة لبنان رداً على أي عقوبات قد يفرضها مجلس الأمن. ولا يمكن أن يكون هناك انذار أكثر وضوحاً من هذا الاغتيال قبيل ساعات من ظهور التقرير الثاني للمحقق ميليس وعشية نقاش جديد لنتائج التحقيق. هذه صفعة، هذا تحد، بل هذا استفزاز لمجلس الأمن. هناك من أوحى للقتلة بأن أفضل طريقة للحصول على"البراءة"هي بالمزيد من القتل، بالمزيد من الإرهاب، وبالتحضير لحالة فوضى دموية عامة. فمن يقتل أكثر يحترم اكثر في عالم جورج بوش وأبي مصعب الزرقاوي. ومن يقتل أكثر يُهاب ويحصل على تنازلات في عالم منقسم حول نوعين من الإرهاب يعاني لبنان واللبنانيون منهما معاً. لم يكن جبران تويني سوى كلمة حرة ورأي حر في بلد انهكته سنوات الهيمنة السورية، وحاولت إماتة حسّ الحرية فيه، لكنها لم تقدر. لم يكن جبران سوى ابن بيت وصحيفة أزهرت فيهما كل براعم الحرية التي عرفها لبنان، وبذلك كان نقيضاً للظلاميين والفاشيين الذين اتهموه يوماً بالعمالة للعدو الإسرائيلي. فهل قتله الإسرائيليون مكافأة ل"عمالته"، أم قتله الفرنسيون حيث كان لاجئاً موقتاً تفادياً للتصفية الجسدية، أم قتله الأميركيون؟ القتلة هي أنفسهم قتلة رفيق الحريري، ولا بد أن يمتد التحقيق الدولي ليشمل كل الجرائم، ولا بد أن تحاسب هذه الجرائم أمام محكمة دولية لئلا يعتقد القاتل أنه يستطيع أن يبقى طليقاً الى ما لا نهاية. كل الصحافة اصيبت باستهداف جبران تويني. ولم يكن اغتياله"تصفية حسابات بين أطراف لبنانية"، كما تبرع أحد محامي القتلة، بل كان فعل قتلة مأجورين لطرف خارجي بات معروفاً.