أبدأ من البداية، فالخبر عن تفكير جورج بوش في الاغارة على تلفزيون"الجزيرة"في قطر الحليفة جداً صحيح... ما سبق هو أول سطرين من هذه الزاوية في 26 من الشهر الماضي، وأكرره اليوم لا عناداً وانما لأنه الحقيقة، فيوم نشر المقال كنت في الرياض في بدء جولة زرت فيها ايضاً لبنان ودبي، وعدت الى لندن أمس حيث وجدت بريداً كثيراً عن"الجزيرة"وغيرها، وعندي التالي: الموضوع قبل اسبوعين لم يكن عن محطة"الجزيرة"، فقد بدأت بها لانفجار الموضوع في حينه، وقلت أن كلامي عنها مقدمة و"موضوعي هو حرب بوش على الصحافة الأميركية"، معتمداً على مصادر أميركية خالصة، هي عندي للباحث المهتم. وأنهيت الموضوع بالعودة الى"الجزيرة"كأسلوب صحافي في اغلاق الدائرة، وهو شيء تعلمناه في المدارس. وكان الموضوع عن الصحافة الأميركية وبعض الارقام زيادة في الايضاح، فقد وقع المقال في 83 سطراً أشرت الى"الجزيرة"في أول 14 سطراً منه وفي آخر ستة اسطر، أو في أول ثلاث فقرات وآخر فقرتين من موضوع في 18 فقرة، اكثرها قصير. القراء جميعاً اكتفوا من الموضوع بالجزء الاقل عن"الجزيرة"، واهملوا جهدي في التوكؤ على مصادر أميركية بالاسماء والوقائع، وأنا أعرض حرب جورج بوش على صحافة بلاده. لا بأس، وطالما ان هذا ما يهم القراء فأنا في خدمتهم، وأكتفي بالبريد الالكتروني لأن العناوين صحيحة، فكان هناك من أيدني بحماسة، ومن أيد بتحفظ، ومواقف بين بين، كلها محفوظ عندي. أقول انني لم أكتب سطراً واحداً في مدح أي برنامج لتلفزيون"الجزيرة"أو مقدمه، واكثر ما قلت أن تفكير الرئيس الاميركي بقصف"الجزيرة"وسام على صدور العاملين فيها. الواقع أن ليس عندي في الجزيرة اصدقاء غير ثلاثة أعرفهم قبل تأسيس تلك المحطة بسنوات، وعندي اصدقاء مثلهم أو اكثر في محطات أبو ظبي ودبي والعربية والحرة، وأيضاً في سي إن إن، لذلك استطيع أن أكون موضوعياً. الموضوعية تقضي بالاعتراف بأن الجزيرة لها أكبر عدد من مشاهدي محطات الاخبار في العالم العربي، وما يزيد على بعض المحطات الاخرى مجتمعة. ولا غرابة في ذلك فهي بين محطات التلفزيون ما يعادل"التابلويد"أو صحف الاثارة بين الصحف، وهكذا فالصحيفة الرصينة"التايمز"اللندنية، ولقبها أم الصحف، تبيع 600 ألف عدد في اليوم مقابل اكثر من ثلاثة ملايين عدد لجريدة"الصن"وحسنائها شبه العارية على الصفحة الثالثة، مع ان الصحيفتين تصدران عن ناشر واحد هو روبرت ميردوخ. "الجزيرة"تمارس الإثارة السياسية، والى درجة الغوغائية احياناً، الا أن الحكم هو الجمهور، وجمهورها اكبر من غيره، لذلك أجد في ملفي الخاص عن الصحافة أن الاشارات اليها أكثر منها الى أي محطة أخبار عربية أخرى. طبعاً تغطية"الجزيرة"استعدَتْ عليها حكومات عربية وشعوباً، وقد لاحظت أن بعض العرب يتفرج على محطات أخرى لا حباً بها، وانما كرهاً بتلفزيون"الجزيرة"، أي على طريقة"لا حباً بمعاوية ولكن كرهاً بعلي". هذا العداء ل"الجزيرة"جعل كثيرين يرفضون تصديق أن يستهدف الرئيس بوش محطة تلفزيون عربية في بلد حليف، مع أن الدليل يكاد يكون قاطعاً، فجريدة"الديلي ميرور"سربت الخبر وحصلت الحكومة البريطانية في اليوم التالي على أمر قضائي بمنع نشره، أو ما يسمونه بلغتهم Gag Order بموجب قانون الاسرار الرسمي وبحجة أن النشر يضر بالمصلحة الوطنية. الحكومة البريطانية لم تلمح تلميحاً الى أن الخبر كاذب، وهناك الآن، موظفان سابقان، واحد في الحكومة والآخر عند نائب عمالي خسر مقعده في انتخابات أيار مايو الماضي، يواجهان المحكمة بتهمة أن الأول سرب وثيقة رسمية سرية الى الثاني فوجدت هذه طريقها الى الصحف. وكتبت نقطة في بحر تفاصيل أوردتها الصحف البريطانية، ولعل القارئ المهتم يعود الى تحقيق في صفحتين كاملتين كتبه خمسة من مراسلي"الأوبزرفر"ونشر في 27 من الشهر الماضي فهو متكامل. المسؤولون الأميركيون لم يجدوا ما ينفون به الكلام المنشور، فقالوا أنه"مزاح". غير انني بين الذين لم يفهموا"النكتة"وهي ان وجدت على الرئيس الاميركي لأن كلامه اعطى"الجزيرة"دعاية مجانية بملايين الدولارات. لو كان جورج بوش يمزح لرد عليه توني بلير ممازحاً. ومثلاً يقول الرئيس الاميركي أريد ان اضرب"الجزيرة"، فيرد رئيس وزراء بريطانيا"وأنا اضرب ال بي بي سي"، لأن هيئة الاذاعة البريطانية لا ترحم الحكومة أبداً. غير ان بلير لم يقل هذا أو أي مزاح آخر، وانما رد عليه بمنتهى الجد وشرح له بتفصيل ردود الفعل السلبية حول العالم على مثل هذا العمل. ولجنة حماية الصحافيين أصدرت من مقرها في نيويورك بياناً خالياً من المزاح مطالبة بوش وبلير بايضاح ما حدث، وكذلك فعلت منظمات مماثلة. أي باحث يحتاج الى المراجع الاصلية لمقالي السابق أو هذا المقال يستطيع الاتصال بي لأقدمها اليه. أتوقف هنا لأحكي للقراء قصة: اتصل بي في وقت سابق من هذه السنة محام فلسطيني من أهالي 1948 له مكتب محاماة في حيفا، ويبدو أنه"وطنجي"كما كنا يوماً، وكان ينتقد تغطية"العربية"، وما يرى من ميلها الاميركي. ودافعت ما استطعت، الا انه أصر على ان"العربية"تحاول منافسة"الحرة"بدل أن تنافس"الجزيرة". رقم هاتف هذا المحامي العربي الفلسطيني من اسرائيل عندي، ولكن اعطيه فقط لرئيس"العربية"أو"الحرة"اذا شاءا أن يسمعا تعليقاً من طرف نادر. فأنا لم أكن اعتقد ان هناك هذا المدى من المتابعة لمحطات التلفزيون العربية بين أهالي 1948. ليست عندي مشكلة أميركية فأنا وسطي الى محافظ بطبعي، وانتخب مرشح المحافظين في دائرتي في لندن، واستطيع ان أؤيد السياسة الاميركية كلها باستثناء ذلك الجزء منها الخاص بالشرق الاوسط. ولا بد من أن غالبية ساحقة من العرب تعارض هذه السياسة لذلك تنجح"الجزيرة"وهي تفسح في المجال لخصوم أميركا من كل لون، مع اثارة واحياناً غوغائية، في استقطاب المشاهدين، وتقصر عنها المحطات الاخرى، مع العلم ان في هذه المحطات بعض افضل الصحافيين مهنة واخلاقاً. الانبهار بالضوء العالي لسيارة يعمي البصر، والانبهار بالسياسة الاميركية الحالية يعمي البصيرة.