قبل سنتين كانت الولاياتالمتحدة تحظى بعطف العالم كله بعد إرهاب 11 ايلول سبتمبر الفظيع، حتى ان صحافياً فرنسياً كتب يقول "اليوم كلنا اميركي". وهكذا كان ودعت الملكة اليزابيث ورئيس الوزراء توني بلير الرئيس جورج بوش للقيام بزيارة رسمية لبريطانيا، وهو قبل الدعوة شاكراً، وحُدّد موعد لها هذا الأسبوع. كيف كان للملكة ورئيس وزرائها ان يقدرا ان ادارة بوش ستستهلك رصيد العطف العالمي كله خلال سنتين، لتصبح الزيارة كابوساً سياسياً وأمنياً، وضع وسط لندن في حالة حصار مطبق. الصحافة البريطانية ملأى هذه الأيام بقصص جورج بوش، وكنت كتبت حلقات عنه، واعتقدت انني وفيت الموضوع حقه، إلا ان متابعتي الصحف البريطانية عشية الزيارة جعلتني اقدر مدى تقصيري. البريطانيون ابرزوا قصة جورج بوش مع الملكة عندما كان حاكم تكساس، وحضر عشاء اقامه تكريماً لها في البيت الأبيض أبوه الرئيس جورج بوش، وقرأت ان جورج وبرباره بوش كانا يدركان قدرة ابنهما على الخطأ، وطلبا منه ان يبتعد عن الملكة، إلا انه لم يفعل، وهو عرض عليها جزمة يرتديها، قال انه اوصى عليها لمناسبة العشاء. كانت الجزمة من النوع الذي اشتهر رعاة البقر في تكساس باستعماله، وسألته الملكة ماذا كتب عليها فقال: "الله يحمي الملكة". ولم تجد الملكة ما تعلق به على الموضوع سوى ان تسأله: هل انت الحمل الأسود في اسرتك؟ ورد: نعم، من هو الحمل الأسود في أسرتك؟ ولم ترد الملكة وإنما ابتعدت عنه. الخطأ الشخصي مع الملكة اهون من الأخطاء في العراق، وكنت نقلت من كتابين، كل منهما في جزءين، عن اخطاء جورج بوش، إلا انني وجدت في الصحف البريطانية خطأ لم أسجله، فهو قال في 27 كانون الأول ديسمبر الماضي في واشنطن ما ترجمته حرفياً: إن الغالبية العظمى من العراقيين تريد العيش في عالم مسالم وحر. وسنجد هؤلاء الناس ونحوّلهم الى المحاكمة. وبما انني احياناً امارس النقد الذاتي فقد راجعت نفسي مرة بعد مرة في ما اكتب عن الرئيس الأميركي وإدارته خشية ان أكون تجاوزت حدود الأدب او المهنية في التعامل مع هذه الإدارة. غير انني أكتب وأمامي مختاراتي من الصحف البريطانية، اي صحف البلد الحليف الأول للولايات المتحدة، وأجد انني بعيد جداً عن مبالغات الكتّاب فيها ورسامي الكاريكاتور، فهو في صورة يبدو كهتلر، وفي اخرى كمطلوب بصفة مجرم حرب، أو انه مرسوم وفي مكان عينيه شعار شركة بترول معروفة. وطبعاً فهناك عشرات رسوم الكاريكاتور البريطانية التي تظهر توني بلير على شكل كلب مطيع يلهو به جورج بوش. عادت إلي ثقة بما أكتب او أصف، وأنا اتابع التعليقات البريطانية على الزيارة الرئاسية، لأنني أتجنب تماماً هذا النوع من المبالغة، وأجدها منافية للأدب. وكنت نشرت ثلاث حلقات عن المسيحيين الصهيونيين، وهم قاعدة الرئيس الانتخابية، إلا انني رأيت بسبب غلوهم الديني وعنصريتهم ان ابعد جورج بوش شخصياً عنهم، وسجلت ما نعرف من تصريحاته المعتدلة عن الأديان الأخرى، وكلامه الطيب عن الإسلام والمسلمين. المشكلة مع الرئيس بوش ليست ان يقول "معظم وارداتنا يأتي من الخارج"، فهذا مضحك، ولكن سياسة خارجية خطفها انصار اسرائيل غير المنتخبين في إدارته، وهي تهدد بتدمير مصالح الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط مع المصالح العربية. القراء تابعوا نتائج استفتاء اوروبي جعل اسرائيل اكبر خطر على السلام العالمي، وأتبع الولاياتالمتحدة بها، وأمامي استفتاء آخر نشرته ال"صنداي تايمز" المؤيدة لإدارة بوش، ويظهر ان 60 في المئة من البريطانيين يعتبرون جورج بوش خطراً على السلام العالمي، في مقابل سبعة في المئة فقط يعتبرونه زعيماً عالمياً جيداً. وأتجاوز اسئلة اخرى تبين منها ان 37 في المئة يعتبرونه غبياً، و33 في المئة يعتبرونه عاجزاً عن التعبير عن نفسه، فهذه امور شخصية مرة اخرى، وإنما ابقى مع سياسته الخارجية، أو ذلك الجزء المحدود منها الخاص بالشرق الأوسط. الرئيس بوش اعطى مقابلات صحافية وتلفزيونية تمهيداً لزيارته بريطانيا، وأكتفي هنا بكلمات سريعة عن حديثه مع ديفيد فروست لتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية. فروست سأله عن عدم وجود اسلحة دمار شامل في العراق فقال: "اعتقد ان استخباراتنا كانت سليمة، وأن الاستخبارات البريطانية كانت سليمة"، وأسأل بدوري كيف يمكن ان تكون معلومات الاستخبارات سليمة مع ثبوت عدم وجود اسلحة دمار شامل. وسئل الرئيس عن الزعم ان العراق كان يستطيع اطلاق اسلحته في 45 دقيقة، فقال: "حسناً، اعتقدت اشياء كثيرة إلا انني اعرف انه كان رجلاً خطراً...". وهذا يعني ان الرئيس الأميركي لا يزال يرفض الاعتراف بالخطأ، وربما بالكذب المتعمد لأجهزته. وسئل الرئيس هل فوجئ بمقاومة المقاتلين الأجانب الغالبية العظمى من العراقيين ولكن السؤال صيغ بهذا الشكل ورد الرئيس وأترجم حرفياً: "كثيرون من هؤلا الناس الذين جاؤوا في البداية يتمنون لو انهم لم يأتوا في البداية. إنهم لا يتمنون البتة الآن، ولكن لا، كنا نعرف انها ستكون قاسية...". وهذا الرد يثبت صدق قول 33 في المئة من البريطانيين ان جورج بوش لا يعرف كيف يعبّر عن نفسه. وأختتم بما ليس مضحكاً ابداً، فالرئيس بوش سئل عن اسرائيل والفلسطينيين، وأيد مشكوراً قيام دولة فلسطينية تعيش بسلام الى جانب اسرائيل، وقال ان ذلك في مصلحة الطرفين. وهو قال ان القيادة الفلسطينية لا تكافح الإرهاب، ولن أعارضه، ولكن أكمل معه فقد سأله فروست هل يعتقد ان شارون رجل سلام، ورد بوش: نعم، أعتقد ذلك، وكرر فروست السؤال، وكرر بوش الجواب. كيف نتوقع خيراً، ورأي جورج بوش في الإرهابي آرييل شارون افضل من رأي الإسرائيليين في رئيس وزرائهم مجرم الحرب الذي يجب ان يحاكم في لاهاي؟ مع زيارة جورج بوش بريطانيا اجد انني امام المضحك حيناً والمضحك المبكي حيناً آخر، ولا اقول سوى ربنا يستر.