اختلفت سيناريوهات التجارب الإصلاحية الأساسية في العقدين الماضيين، إلا أنها كلها انطلقت من الفئة الحاكمة، وهو ما رأيناه في الصين والاتحاد السوفياتي وجنوب افريقيا والجزائروإيران، حيث كان الفارق بين هذه التجارب متحدّداً في آلية انطلاق الإصلاح، إما عبر جناح في الحزب الحاكم زهاو زيانغ، الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني بين عامي 1987 و1989، ميخائيل غورباتشوف زعيم الحزب السوفياتي1985 - 1991، اللذان عبرا عن جناحين إصلاحيين في الحزب الحاكم، أو رئيسٍ للجمهورية انتهج الإصلاح بعد وصول نظامه إلى مأزق دولي - إقليمي - داخلي دي كليرك في جنوب أفريقيا، أو بعد اصطدامه بالداخل عبر اضطرا بات في الشارع هزّت البلاد الشاذلي بن جديد بعد تظاهرات 1988 في الجزائر، فيما رأينا تجربة خاتمي تنطلق بعد فوزه في انتخابات الرئاسة الإيرانية في أيار مايو من عام 1997، وهو الذي كان وزيراً وجزءاً من التركيبة الحاكمة. لم تنجح سوى تجربة دي كليرك التي توجت بتسلم مانديلا السلطة عبر انتخابات 1994، فيما فشلت تجربة الصين بعد سحق دبابات الجناح المحافظ حركة الطلاب - 4 حزيران يونيو 1989 - وما استتبعها في الشهر نفسه من إقالة الأمين العام للحزب، بينما أدى انقلاب المحافظين الشيوعيين - 19 آب أغسطس 1991- إلى فقدان الإصلاحيين الشيوعيين بزعامة غورباتشوف دفة القيادة لمصلحة الراديكاليين الليبراليين بزعامة يلتسين، الذين تولوا السلطة بعد فشل ذلك الانقلاب، فيما قام الجيش الجزائري بانقلاب 11كانون الثاني يناير 1992 ليمنع تسلم جبهة الإنقاذ السلطة عبر الانتخابات التي فازت في دورتها الأولى. كان انطلاق تجربة خاتمي الإصلاحية مبنياً على قاعدة اجتماعية عريضة، تجاوزت ثلثي ناخبي انتخابات 1997، وقد عبرت تلك القاعدة عن ضيقها وتذمرها من فئة رجال الدين المحافظين الحاكمين منذ عام 1979، وسياساتهم الاقتصادية التي ترافقت مع انحسار أسعار النفط في التسعينات وسياستهم الاجتماعية التي قمعت الشباب والنساء، وعن رفضها لسياساتهم الإقليمية والدولية التي أدت إلى عزلة إيران، الشيء الذي تجسد في عدم قدرة الحاكمين الإيرانيين على استثمار عزلة صدام حسين بعد حرب 1991، ليوُضعوا معه في سلة الاحتواء المزدوج التي انتهجتها إدارة كلينتون منذ عام 1993، فيما فشلت سياسة طهران الأفغانية فشلاً ذريعاً عبر صعود الطالبان للسلطة في خريف 1996، لينضاف ذلك إلى فشل السياسة الإيرانية في استقطاب التأييد والنفوذ داخل جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، سواء تلك التي تحوي مكونات قومية تمّت بصلة إلى أحد الشعوب الإيرانية، مثل أذربيجان التي ناصبت طهران العداء ما اضطر الأخيرة للتحالف مع أرمينيا في نزاع ناغورني كاراباخ،أوتلك التي لها طابع ثقافي فارسي مثل طاجيكستان التي عاشت في التسعينات حرباً أهلية بين الشيوعيين السابقين الموالين لموسكو والاسلاميين. فيما تجب الإشارة أيضاً إلى أن ذلك كان متزامناً أيضاً مع الانقلاب الخفي الذي قام به الجيش التركي على أربكان في 28 شباط 1997، وما أدى إليه ذلك من استقالته من رئاسة الوزارة في أنقرة في شهر حزيران اللاحق، بعد أن علّقت طهران آمالاً كبيرة على وصوله للسلطة في صيف 1996. لم يستطع خاتمي وضع المحافظين الإيرانيين في الزاوية الضيقة على رغم كل الظروف الداخلية - الدولية المشار إليها آنفاً، ولا استثمار فوزه الانتخابي الضخم، بخلاف السياسة الهجومية التي اتبعها كل من زهاو زيانغ وغورباتشوف ضد الجناح الآخر المحافظ في بكين وموسكو، حيث انتهج أسلوباً مهادناًً ومسايراً للقوى المحافظة القائمة تنظيمات رجال الدين المحافظين - الحرس الثوري - البازار.... إلخ، ولم يحاول السيطرة أو انتزاع مراكز القرار التي من الواضح أنها انتقلت في عهده إلى مراكز أخرى، بعد أن كانت رئاسة الجمهورية في عهد رفسنجاني 1989 - 1997 هي المركز الرئيسي للقرار، إثر وفاة الخميني وإبعاد منتظري لمصلحة خامنئي وهو ما لعب فيه رفسنجاني دوراً رئيسياً، لينتقل ذلك بعد انتخاب خاتمي إلى هيئة تشخيص مصلحة النظام التي استحدثت على قياس رفسنجاني، وإلى مجلس صيانة الدستور، و إلى المرشد خامنئي الذي أمسك بالجيش والحرس ووزارة الاستخبارات ووسائل الإعلام. لم يستطع خاتمي أن يفعل شيئاً أمام ذلك، سوى أن يأخذ وضعية أيوب، فيما لم يقتصر خصومه المحافظون على الإمساك بمراكز القرار الرئيسية، وإنما بدأوا بالانتقال إلى وضعية هجومية لم يستطع خاتمي أمامها حراكاً، مقتصراً على الوضعية السلبية وهو ما ظهر في قمع حركة الطلاب في شهر تموز يوليو 1999، وفي إغلاق الصحف الإصلاحية، وفي سجن الصحافيين و السياسيين الإصلاحيين، وهو ما استمر كنهج عند خاتمي الذي لم نره يضع ذلك وراءه على رغم الدعم المتجدد من الشارع للإصلاحيين في الانتخابات التشريعية في شباط فبراير 2000، وعلى رغم تلك الثقة المتجددة به كرئيس للجمهورية في انتخابات حزيران 2001. كان المحافظون الإيرانيون أكثر براغماتية من خاتمي الإصلاحي: فقد استفادوا من تخلي الإدارة الأميركية منذ صيف 1999 عن سياسة الاحتواء المزدوج لمصلحة احتواء منفرد لبغداد، وهو ما أدى إلى تقاربات و"تنسيقات" تجاه الوضع العراقي، وكذلك حيال أفغانستان بعد انتهاء غض النظر الأميركي عن حكم طالبان إرضاءً لباكستان، وأيضاً لتركمنستان وشركة يونوكال الأميركية المتعهدة لمد أنبوب للغاز بين تركمنستان وباكستان عبر أفغانستان بعد تفجير السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام آب 1998 من قبل ابن لادن المقيم عند طالبان، وهو ما انعكس فكّاً للعزلة الدولية عن إيران، ليستثمره المحافظون الإيرانيون، القابضون على مقود السياسة الخارجية، مع الجماعة الأوروبية ومع دول الخليج، ثمّ ليأخذوا جائزتهم الكبرى عبر قيام الإدارة الأميركية بالإطاحة بخصمين لدودين لطهران في كابول وبغداد، على إثر تداعيات 11 أيلول. تزامن ذلك مع فورة أسعار النفط، وبداية تحسن الوضع الاقتصادي الإيراني : كان ترافق هذا، مع النجاحات الإيرانية في السياسة الخارجية، مؤدياً إلى ترجمات سياسية داخلية، انعكست لمصلحة المحافظين الإيرانيين، كما في الانتخابات البلدية في خريف عام 2003، ثم في انتخابات برلمان 2004، وإلى اكتمال عزلة خاتمي، الذي تحول منذ ذلك الوقت إلى رئيس بلا صلاحيات فعلية. كان فوز الشخصية السياسية المحافظة محمود أحمدي نجاد في انتخابات الرئاسة الايرانية 24 حزيران 2005 اعلاناً متأخراً عن فشل الخاتمية، وعن انتصار المحافظين الايرانيين: اللافت للنظر أن يحصل ذلك عبر صندوق الاقتراع، فيما حصل ذلك في بكين عبر الدبابة، وكذلك في الجزائر عندما قامت قوى الأمر الواقع، داخل النظام، بالانقلاب العسكري. في هذا الإطار، يلاحظ أن انفتاح بكين على العالم الخارجي وفك عزلتها عبر استغلالها لمواقفها المهادنة لواشنطن في أزمتي الكويت وكوسوفو، ونجاحات الفئة الحاكمة الصينية في الاقتصاد -أديا إلى تعزيز القاعدة الاجتماعية لحكام بكين، وإلى انحسار المعارضة، وهو ما نرى شيئاً شبيهاً له في الجزائر، إثر حسم واشنطن موقفها ضد الإسلاميين في الجزائر بعد عام 1995، وبعد انتعاش الاقتصاد الجزائري بعد فورة أسعار النفط الأخيرة. السؤال ليس: هل سيقوم المرشد خامنئي والرئيس نجاد، بما قام به دينغ سياو بينغ وجيانغ زي مين، و بوتفليقة؟... بل هل سينجحان في ذلك، عبر ملاقاة واشنطن لهما، كما فعلت مع بكينوالجزائر؟ كاتب سوري.