تشهد صناعة السيارات الألمانية حالياً عملية تغيير جوهرية للحفاظ على موقعها التنافسي المتميز، في عالم يشهد المزيد من تكامل أسس العولمة الجارية على مصلحة السيادة الوطنية كما على مصلحة الاحتكارات الوطنية أو المتوسعة في دول أخرى بالمفهوم الاحتكاري السابق. والتنافس المتنامي الذي تواجهه صناعة السيارات الألمانية في عالم العولمة الجديد، لم يعد محصوراً بينها وبين كبار الدول الغربية المصنعة للسيارات، بل ومع دول آسيوية بدأت"تتعملق اقتصادياً"في السنوات الأخيرة مثل الصينوكوريا الجنوبية من دون أن ننسى اليابان بالطبع التي لا تزال تسبق الدولتين المنافستين لها. وتستعد كل من الشركتين الألمانيتين الضخمتين"فولكسفاكن"وپ"مرسيدس"اللتين تصنعان في المانيا ودول أخرى كثيرة"ماركات"مختلفة من السيارات، لتنفيذ عملية خفض للتكاليف في المرحلة المقبلة لا سابق لها في تاريخهما ستطاول عشرات آلاف العمال والموظفين الذين سيسرحون من العمل بعد دفع تعويضات لهم. وتمتاز الشركتان باسمين عالميين لا جدال حولهما منذ عشرات السنين: الأولى اشتهرت بسيارة"كيفر"الشعبية الصغيرة على شكل"جُعل"التي اجتاحت العالم وعرفت عندنا باسم"فولكسفاكن"، ولاحقاً أيضاً بسيارة الپ"غولف"، والثانية تميزت بشارة"النجمة"الفضة على مقدم سياراتها التي أصبحت عنوان الديمومة والفخامة. أي المرسيدس بالطبع. الدمج"الحبي" لكن هذا التاريخ المجيد للشركتين أصبح اليوم من الماضي تقريباً، وهما تعكسان حالياً الحالة التي تواجهها صناعة السيارات الألمانية الواقفة على عتبة تنفيذ تغييرات جذرية في استراتيجيتها للعقود المقبلة. وتواجه هذه الشركات أكثر فأكثر حالياً - وعلى رغم قدراتها المالية الضخمة - محاولات لعولمتها من جانب تكتلات مالية دولية عملاقة من طريق"شرائها بصورة حبية"، وهو تعبير درج في الفترة الأخيرة ليحل محل تعابير سابقة مثل"الاستيلاء"وپ"الاحتكار"وپ"الشراء بالقوة"و"الدمج". ومثل هذه الأمور لم تعد تحدث مع شركات تعاني افلاساً أو أزمة سيولة كما في السابق أي كما حصل مع شركة سيارات"كرايزلر"الأميركية التي اشترتها شركة"دايملر بنز"الألمانية ودمجتها بها لتصبح"دايملر - كرايزلر"، وانما مع شركات سليمة وقوية يجري"التحرش بها حبيباً"وملاحقتها من طريق عرض مبالغ سخية عليها من جانب تكتلات مالية دولية ضخمة تعرف اليوم باسم"هيدج فوندز"الى أن يذعن المسؤولون عنها في النهاية أمامها بعدما يفشلون في مقاومة الاغراءات المالية المقدمة. بورشه تسيطر على فولكسفاكن وهذا ما تعرضت له شركة"فولكسفاكن"بالتحديد أخيراً، فهبت شركة صناعة سيارات"بورشه"الألمانية الصغيرة لنجدتها فاشترت على الفور 10 في المئة من أسهمها معلنة أنها ستشتري قريباً 10 في المئة اضافية بحيث يبلغ مجمل استثماراتها المالية في"فولكسفاكن"ثلاثة بلايين يورو، ما يؤمن السيولة المطلوبة لاجراء التحويلات البنيوية المطلوبة لمواجهة تحديات المستقبل، وللتعويض على آلاف العمال والموظفين المسرحين حيث ستصل قيمة التعويضات الى بليون يورو تقريباً. ومن التحديات الكبيرة التي ستواجهها صناعة السيارات الألمانية خلال العقدين القادمين، القناعة التي تترسخ حالياً في عقول القائمين عليها على قاعدة دراسات وتحليلات جدية تجريها معاهد بحوث مختلفة تتنبأ"بأن الانتاج العددي الضخم للسيارات الألمانية سيشارف على نهايته خلال السنوات ال 15 المقبلة". ويعتقد المراقبون هنا بأن السيناريو"المروع"هذا"واقعي عملياً"، خصوصاً اذا أخذ المرء مثال بريطانيا في الاعتبار، حيث خرجت صناعة السيارات البريطانية العريقة في السنوات الماضية بصورة كاملة من المسرح الدولي بعد بيع شركة"روفر"القديمة كآخر شركة سيارات بريطانية مستقلة. وما تبقى اشتراه الآسيويون والصينيون بصورة خاصة، ولكن أيضاً الهند. ومن هذه الدول الآسيوية، خصوصاً كوريا الجنوبيةواليابان حالياً، يزحف القسم الأكبر من الخطر المتمثل في القدرة على انتاج سيارات متدنية الأسعار مقارنة بأسعار السيارات الألمانية والأوروبية. تسريح آلاف العمال والخطر هذا الذي يناقض واقع الحال اليوم، حيث تشهد مبيعات السيارات الألمانية انتعاشاً جديداً بعد فترة ركود وتراجع خلال السنتين الماضيتين، فرض على أصحاب ومديري شركات السيارات الالمانية العمل منذ الآن على مواجهة ما يمكن أن يحدث بعد عقد ونصف من الزمن، وهذا يعني في لغة ادارات هذه الشركات تهديدها لعشرات الآلاف من العاملين فيها، إما بنقل مصانع الانتاج الى الخارج حيث توجد أيد عاملة رخيصة أو القبول بأجور أقل وبتسريح قسم منهم والتنازل عن بعض المكتسبات الاجتماعية والصحية وأيام العطل، التي سبق وحصلوا عليها. وفيما كان التسريح يحصل في السابق حين كانت الشركات تتعرض الى خسائر كبيرة، فإن التسريح اليوم يحصل في وقت سجلت فيه الشركات أرباحاً لا تنكرها اداراتها، ومثل قرار مصرف"دويتشه بنك"الأخير القاضي بتسريح 6500 موظف على رغم أرباحه الواضحة. وهذا بالذات ما تسعى اليه ادارتا"فولكسفاكن"وپ"مرسيدس"حالياً، ما يشير الى أحد أوجه العولمة الحاصلة. ففيما ذكر رئيس مجلس ادارة"مرسيدس كار غروب"ديتر تسيتشه أن شركته ستصرف 8500 عامل وموظف من العمل خلال السنة المقبلة، مخصصة تعويضات مالية لهم قيمتها 950 مليون يورو، ذكرت مصادر مجلس ادارة"فولكسفاكن"أن عدد المسرحين سيتجاوز الپ10 آلاف عامل وموظف على مدى بضع سنوات في المانيا فقط، وان الشركة ستستخدم بليوني يورو من مشتريات شركة"بورشه"من الأسهم فيها لتغطية قيمة التعويضات التي ستدفع. يذكر ان تسيتشه وزميله فولفغانغ بونهارد الذي تسلم منصباً رفيعاً في مجلس ادارة"فولكسفاكن"، وسيكون مسؤولاً عن خطط التسريح، اكتسبا معاً خبرة كبيرة في هذا المجال خلال عملهما المشترك بطلب من شركة"دايملر ? كرايزلر"لتسريح 26 ألف عامل وموظف من شركة"كرايزلر"في الولاياتالمتحدة، واغلاق عدد من مصانع الانتاج فيها لانقاذها من الافلاس. وتتلخص مهمة الرجلين اليوم في ازالة الأخطاء التي وقع فيها سلفاهما في الشركتين الالمانيتين"واعادة أحلامهما الزاهية الى أرض الواقع بحسب قول أحد المحللين الاقتصاديين. اللحاق بقطار العولمة واعتبر رئيس"معهد التحليل الاقتصادي والاتصال"في ميونيخ هلموت بيكر أن شركة"دايملر - كرايزلر""غطت في نوم عميق غافلة عن العولمة الجارية منذ 15 سنة". وبعدما اعتبر أن أحداً لا يمكنه الادعاء بأن العولمة فاجأته، لاحظ ان الادارة"ارتكبت أخطاء مهنية، لكن لا أحد يريد الاعتراف بذلك بعدما جرى التوقيع على عقود مع النقابات العمالية تمنع التسريح لقاء خفض ساعات العمل والأجور". وفي ما يخص شركة"فولكسفاكن"وجد بيكر ان العقد الذي وقع قبل عشر سنوات مع العمال وحدد ساعات العمل الأسبوعية بپ28.8 ساعة، تمكن من انقاذ 30 ألف وظيفة كان يمكن أن تلغى حينها، لكن ادارة الشركة في فولسبورغ لم تعد قادرة اليوم على تجاهل أمر التسريح. واضاف:"الواقع والسوق تجاوزا الآن النقطة التي يتواجد فيها مصنّعو السيارات الألمان". من هنا محاولة"فولكسفاكن"اللحاق بقطار العولمة بعدما أعلن رئيس مجلس ادارتها برنهارد بيشيتسريدر أخيراً، أنه سيعمل على خفض مصاريف امبراطوريته التي تشمل أيضاً سيارات"أودي"الألمانية وپ"سيات"الاسبانية وپ"سكودا"التشيخية نحو 10 بلايين يورو خلال السنوات الأربع المقبلة وزيادة المبيعات بمقدار أربعة بلايين يورو. والهدف من ذلك تغطية تكاليف التغييرات البنيوية التي تحتاج اليها الشركة والبالغة 16 بليون يورو من أجل مواجهة متطلبات العولمة المتزايدة. ويرى المراقبون الاقتصاديون هنا ان اتحاد عمال المعادن إي غي ميتال القوي جداً في قطاع صناعة السيارات، يشعر حالياً بأنه أمام مواجهة تتجاوز قوة تأثيره التقليدية، وغير قادر على منع التسريح الجماعي الذي سيطاول نحو 30 ألف عامل وموظف في الشركتين الضخمتين في المانيا وحدها، أي واحد من كل عشرة. وكل ما يمكنه فعله هو العمل على تخفيف الوطأة من ناحية رفع تعويضات التسريح واقتراح خفض ساعات العمل والأجور لمنع الغاء قسم من الوظائف المقررة.