فيما كان بطريرك الكنيسة القبطية المصرية البابا شنودة الثالث وشيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي يشددان في حفل إفطار رمضاني رسمي دعت إليه الكنيسة على"عمق الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط وتاريخيتها"، كان آلاف المتظاهرين الغاضبين يطوقون إحدى كنائس الإسكندرية احتجاجا على عرض مسرحي استضافته قبل عامين اعتبروه "مسيئاً للإسلام". لم تكن التظاهرات الحاشدة أمام كنيسة"مار جرجس"السكندرية التي انتهت بمقتل ثلاثة أشخاص وإصابة أكثر من مئة آخرين في مواجهات مع الشرطة، سوى حلقة جديدة في مسلسل الاحتقان الطائفي بين المسلمين والأقباط في مصر, والذي بات متجددا في شكل لافت، لم يعد ممكنا معه تصديق"صورة وردية"للعلاقة بين الطرفين يسعى الدينيون الرسميون دائماً إلى ترويجها. وعلى رغم أن معركة الانتخابات البرلمانية التي تجرى الشهر المقبل تبدو وثيقة الصلة بأحداث كنيسة"مار جرجس"التي تقع قرب دائرة أحد مرشحين قبطيين اثنين على لوائح"الحزب الوطني الديموقراطي"الحاكم، فإنه لا يمكن إحالة كل تداعيات الأزمة عليها. إذ أن الأعوام الأخيرة شهدت تصاعدا غير مسبوق لوتيرة الاحتقانات الطائفية في مصر. ومنذ قتل 19 قبطيا ومسلم واحد وأصيب العشرات وأحرقت متاجر ومنازل وسيارات في العام 1999، خلال اشتباكات على خلفية شجار بين تاجر أقمشة قبطي وسيدة مسلمة في قرية الكشح التابعة لمحافظة سوهاج في صعيد مصر، تكررت حوادث العنف الطائفي، وإن تعددت صيغها. وكانت لهذه الأحداث، على اختلافها، أسباب متباينة، أبرزها الإشاعات عن محاولات بناء الكنائس أو ترميمها من دون ترخيص أو تلك التي تروج عن محاولات استقطاب مسيحيين إلى الإسلام أو إدخال مسلمين في المسيحية. بل إن مسرحية"كنت أعمى والآن أبصرت"التي أثارت احتجاجات الإسكندرية لم تكن بعيدة من هذا الجدل، إذ تحكي قصة شاب مسيحي يتحول إلى الإسلام بفعل إغراءات مادية، ثم لا يلبث أن يعود إلى المسيحية بعدما يطلق آراء عن المسلمين، اعتبرها المحتجون"مسيئة"لعقيدتهم. عرضت المسرحية المثيرة للجدل قبل عامين داخل أسوار الكنيسة، لكن تسجيلا لها على اسطوانات مدمجة وزعه مجهولون على طلاب بعض الجامعات... واختفوا. ويروي ل"الحياة"أحمد سليم، وهو طالب من جامعة عين شمس القاهرية شارك في التظاهرات أمام كنيسة"مار جرجس"كيف وصلت إليه المسرحية. يقول:"في أول أيام رمضان، وزع شبان في الجامعة اسطوانات مدمجة قالوا إنها تحتوي أدعية دينية. وعندما فتحناها، فوجئنا بالمسرحية التي تتضمن تطاولا على الإسلام والرسول الكريم. كانت تتصدرها صورة البابا شنودة واسم الكنيسة وعنوانها". لم يشاهد سليم من وزعوا الاسطوانات مرة أخرى، ولم تأت على ذكرهم الروايات الرسمية التي تعرضت للأزمة. وهو يعترف بأن كثيرين من زملائه الذين سافروا معه إلى الإسكندرية للتظاهر أمام الكنيسة لم يشاهدوا المسرحية، لكنهم"سمعوا تفاصيلها من أصدقاء لهم". هذه"التفاصيل"التي تنقل في الأحداث الطائفية يضاف إليها الكثير، لا سيما أن التأهب موجود لدى الطرفين وعلاقة التشكيك بينهما تسمح بقبول أي روايات أو أساطير عن مؤامرات تحاك في الظلام أو"حملات تنصير منظمة تغري المسلمين بالمال في المناطق الفقيرة"، أو"تواطؤ من الدولة لأسلمة المسيحيين"! وتشكل إشاعات"أسلمة"المسيحيين، خصوصا المسيحيات، الشرارة الأولى لغالبية حوادث العنف الطائفي التي اندلعت أخيراً، ربما لخوف الأقباط من أن يكون تحول بعضهم إلى الإسلام، تمهيدا لإذابتهم وتمييع هويتهم، بحسب باحثين في المسألة القبطية. ولعل أشهر الوقائع في هذا السياق قضية السيدة وفاء قسطنطين التي بدأت قبل بضعة أشهر، عندما اختفت زوجة الراهب من منزلها، واتهم الأقباط مسلمين بخطفها وإرغامها على التحول الى الإسلام. ثم ما لبثت القضية أن تطورت مع تنظيم الأقباط تظاهرات حاشدة شهدت مصادمات مع الشرطة أدت إلى إصابة عشرات، للمطالبة بعودة قسطنطين التي ظهرت لتؤكد أنها بدلت دينها بمحض إرادتها. واحتجزتها الكنيسة في أحد الأديرة لإقناعها بالعدول عن قرارها. وتكررت الواقعة مرات عدة وإن اختلف الأشخاص. غير أن أبرز تفاعلات إسلام السيدة قسطنطين كان موقف البابا شنودة الثالث الذي اعتكف في دير الأنبا بيشوي إلى حين انتهاء القضية, وهو إجراء يتخذه عادة للتعبير عن عدم رضاه عن طريقة تعاطي الدولة مع الأحداث التي تمس الأقباط. وقبل أسابيع، كادت قضية مماثلة أن تتفجر على الجانب الآخر، إثر إشاعات مفادها أن سيدة قبطية وراء اختفاء ابنة إمام مسجد في حي عين شمس القاهري، بعدما أقنعتها بالتحول عن الإسلام. لكن تراجع بعض الشهود عن أقوالهم أسهم في احتواء الموقف. أما العامل الثاني الأبرز في حوادث العنف الطائفي، فيتمثل في بناء الكنائس وترميمها. إذ تحكم عمليات بنائها في مصر قاعدة"الخط الهمايوني"التي وضعتها سلطة الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، وهي تلزم المسيحيين بالحصول على تصريح من الباب العالي استبدل لاحقا برأس الدولة المصرية قبل الشروع في بناء كنائس جديدة أو ترميم أخرى قائمة. ولم يكن غريبا أن ترتبط عودة الفتنة الطائفية إلى مصر في مطلع سبعينات القرن الماضي ببناء كنيسة? ففي العام 1972، أحرق مجهولون كنيسة شيدت من دون ترخيص في منطقة الخانكة التابعة لمحافظة القليوبية? وأثار ذلك احتجاج الأقباط الذين خرجوا في تظاهرة على رأسها البابا شنودة الثالث المعين حديثا، آنذاك، ما كان بداية صدام استمر بين الدولة والكنيسة طيلة عقد السبعينات. بعدها، أوصت لجنة برلمانية تشكلت برئاسة وكيل مجلس الشعب آنذاك جمال العطيفي للتحقيق في"حادثة الخانكة"، بتغيير قاعدة"الخط الهمايوني"ونبهت إلى مواضع خلل وسوء فهم كثيرة تمس العلاقة بين الأقباط والمسلمين، لكن"الدولة فضلت دفن رأسها في الرمال"، كما علق احد المشاركين في صوغ التقرير، تعليقا على رد الفعل الرسمي إزاءه. ومنذ ذلك الحين، تتكرر الاشتباكات بين المسلمين والأقباط مع كل إشاعة عن محاولة بناء كنيسة من دون ترخيص أو تشييد سور حول أخرى، على رغم أن الرئيس حسني مبارك فوض سلطات منح تراخيص بناء الكنائس وترميمها للمحافظين عام 1998. ويوجه مهتمون كثيرون بالشأن القبطي انتقادات إلى أسلوب الدولة في إدارة أزمات العنف الطائفي عبر الوسائل الأمنية أو بالتكتم عليها، ما لا يمثل حلاً ناجعا لهذه المشكلة الخطيرة? ويمنح جماعات"أقباط المهجر"التي تنشط في أوروبا والولايات المتحدة وقائع ملتبسة يمكن بتهويلها ونسج الأساطير حولها، تدويل القضية القبطية? وفي أعقاب أزمة الكشح، قال النائب العام المستشار ماهر عبد الواحد إن التحقيقات انتهت إلى أن الاشتباكات بين المسلمين والأقباط التي قتلت 20 شخصا وأثارت الذعر في صعيد مصر"ليست وراءها دوافع دينية"!، كما خرج البابا شنودة وقتها في قداس عيد الميلاد الذي أعقب الأحداث مباشرة، ليؤكد أن"الأقباط والمسلمين يتعايشون في مصر منذ 14 قرنا"، من دون أي إشارة إلى ما حدث في الكشح. وتشكلت جماعات"أقباط المهجر"التي تسعى لتدويل القضية القبطية وطلب حماية دولية للأقباط بدعوى اضطهادهم في مصر، عقب موجات هجرة للأقباط بعد ثورة تموز يوليو 1952 وخلال حقبة الصدام مع الرئيس الراحل أنور السادات في السبعينات وخلال استهدافهم في موجة العنف الديني التي ضربت مصر في التسعينات. وتعقد مجموعة منهم مؤتمرا في الكونغرس الأميركي الشهر المقبل لمناقشة"أسلمة المسيحيات"في مصر، وأوضاع الأقباط. لكن البابا شنودة عادة ما يهون من شأن تحركات أقباط المهجر. ويشعر الأقباط دائما أن ثمة"خطًا همايونيًا"مفروضًا على مشاركتهم في مختلف مناحي الحياة المصرية، وأن هناك سعيًا ما إلى تحجيم ترقيهم المجتمعي والسياسي. ولعل هذا الشعور تعززه نسب تمثيلهم المنخفضة في البرلمان والحكومة، إذ راوحت نسبة الأقباط في البرلمان حول اثنين في المئة خلال الأعوام الخمسين الأخيرة، ولم يزد عدد وزرائهم في الحكومات المتعاقبة على اثنين. بيد أن المشكلة القبطية تعود إلى أبعد من نصف القرن الفائت بكثير، ففي العام 1910 اغتال صيدلاني مسلم أول رئيس وزراء قبطي لمصر بطرس باشا غالي لأنه"خائن"، بعدما سعى الأخير الذي جاءت به سلطة الاستعمار البريطاني إلى تمديد عقد احتكار قناة السويس، كما ترأس محكمة دنشواي الشهيرة التي حكمت بالإعدام على فلاحين مصريين طاردوا جنودا بريطانيين قتلوا إحدى بنات قريتهن خلال رحلة صيد، وأقر قانونا مجحفا للمطبوعات. وفي العام 1911، عقد عدد من المثقفين والسياسيين الأقباط"مؤتمر الأقباط"الذي اعتبروا فيه أن الاغتيال لم يكن سياسيا، بل جاء لأسباب دينية. ورد مثقفون مسلمون بعقد"المؤتمر المصري"الذي رفضوا فيه اتهامات المؤتمر القبطي. لكن ثورة العام 1919 سرعان ما احتوت تفجر الأوضاع هذا، وشهدت اندماجا كبيرا بين المسلمين والأقباط، كان يمكن أن يشكل أساساً لدولة المواطنة، لو لم تعق التطورات اللاحقة هذا المشروع. وجاءت ثورة العام 1952 من دون أن يكون بين أعضاء مجلس قيادتها قبطي واحد. ومع انتهاء الحقبة الناصرية، بدأ الصدام الشهير بين الأقباط والرئيس السادات الذي عزز الاتجاه الإسلامي للدولة المصرية، وانتهى بانسحاب الأقباط وانغلاقهم على مجتمعاتهم الكنسية التي أصبحت تلعب دور الدولة في تقديم المساعدات المالية والخدمات العلاجية والتعليمية وغيرها، بالتزامن مع تراجع دور الدولة في هذا الصدد بسبب تبنيها نظاما اقتصاديا مفتوحا، ترك مواطنيها فريسة سهلة للجمعيات الدينية المسيحية والإسلامية التي تشكل تهديدا خطيرا لدولة المواطنة. أبرز ما خلفته أزمة الإسكندرية، بخلاف إعادتها جدل الطائفية إلى الصدارة، تأكيدها زيادة سطوة البابا شنودة الذي صار متفردا بالقرار القبطي، بعدما حجم القيادات المدنية المسيحية، وهو كان قادرا على إنهاء الأزمة الأخيرة بسهولة، لأن المتظاهرين لم يطلبوا سوى اعتذار عن المسرحية. لكنه فضل عدم الاعتذار، متهما"جهات مشبوهة"بإشعال نار الفتنة من دون أن يبادر إلى إطفائها. ولعل موقفه في الاستحقاق الرئاسي الماضي عندما قال إن الأقباط جميعا يؤيدون الرئيس مبارك ونال من معارضي الرئيس من رعايا الكنيسة، جعل الأقباط يبدون أقرب إلى كتلة تصويتية منهم إلى مواطنين مندمجين في النسيج الوطني على اختلاف تشكيلاته واتجاهاته، مكرسا لمزيد من العزلة.