أطلق الحزب الوطني الحاكم في مصر اسم"برلمان المستقبل"على البرلمان الجديد قبل واثناء حملته الانتخابية الضخمة التي روج فيها أمنيات وعد الشعب المصري بتحقيقها عبر 444 مرشحاً طرحهم للتنافس على مقاعد البرلمان الجديد. لكن النسبة الأكبر من مرشحي الحزب فشلوا في نيل المقاعد التي نافسوا عليها، فلجأ الوطني كعادته الى حيلته القديمة بضم الذين خاضوا الانتخابات كمستقلين على رغم انتمائهم للحزب، بعدما خلت لائحة مرشحي حزبهم من اسمائهم. لعبة الوطني القديمة الجديدة تكفل له دائماً الحفاظ على الغالبية البرلمانية وتجاوزه حاجز ثلثي مقاعد البرلمان ليضمن تمرير القوانين التي يريدها والتحكم في القرارات الاستراتيجية التي يتطلب اعتمادها تأمين موافقة ثلثي عدد نواب البرلمان. أتى"برلمان المستقبل"بشكل يخالف كثيراً البرلمانات السابقة، إذ ستتمثل فيه جماعة"الاخوان المسملين"بقوة وسيكون حضور نواب"الاخوان"فيه بارزاً ولافتاً. ذلك ان"الجماعة"نالت 88 مقعداً، وعلى رغم انها فقدت برلمانياً بارزاً من قادتها وهو رئيس الكتلة البرلمانية للاخوان في البرلمان السابق الدكتور محمد مرسي، فإن أعضاءها عُرفوا دائماً لقدراتهم العالية في صنع كوادر جديدة. ولن يكون صعباً على"الجماعة"أن تطرح قائداً لنوابها في البرلمان يلعب دور المايسترو ويرفع يده ليفهم باقي النواب في أي إتجاه عليهم أن يسيروا، ولن يكون الحزب الحاكم وحده في الميدان البرلماني، فنواب"الوطني"في كل البرلمانات السابقة كان لديهم دائماً جموح طاغ نحو"التزويغ"، وعرف عنهم كثرة غيابهم عن جلسات البرلمان السابقة? الأمر سيختلف هذه المرة، فالحضور الدائم لنواب"الاخوان"سيجبر نواب الحزب الحاكم على البقاء في مقاعدهم وعدم مغادرتها. و"التزويغ"بعد التوقيع في دفاتر الحضور لمجرد إثبات الوجود سيجعل نواب الاخوان وحدهم يصولون ويجولون. والمؤكد أيضاً أن الخطاب السياسي والاعلامي لنواب"الاخوان"وقدرتهم على استخدام مفردات جماهيرية عند الحديث عن قضايا مهمة تحت قبة مجلس الشعب سيدفع بنواب"الوطني"- أو هكذا يجب أن تكون عليه الحال - الى استخدام لغة خطاب مغايرة لتلك التي استمرت تطرح في السنوات الماضية - التمثيل الهزيل لباقي الاحزاب سيجعل من المواجهة بين"الوطني"و"الاخوان"في البرلمان حتمية ومستمرة ومشتعلة من دون طرف آخر يضبط ايقاع الصراع، ولن يجد"الاخوان"انفسهم مضطرين لعقد تحالفات مع احزاب لا يزيد عدد نوابها مجتمعة عن عشرة. أما"الوطني"فواجه الجميع قبل الانتخابات وأثناءها ورفض التعامل باللين مع رموز الاحزاب اثناء المعركة الانتخابية، واستخدم كل الطرق المتاحة لإبعادهم عن البرلمان. ورفض بشدة آراء من داخل الحزب تنادي بتمثيل رموز من المعارضة في البرلمان بما يسحب البساط من تحت اقدام جماعة"الاخوان المسلمين"ونوابها ويخفف الضغط على الوطني الذي لن يجد معارضة لأحزاب شرعية يمكن التنسيق معها عند الحاجة أو حين تفرض ظروف على الحزب الحاكم أن يكسب تأييد المعارضين لقرار أو توجه وطني معين. وأكثر ما تخشاه النخب السياسية المصرية أن تتحول المواجهة بين"الوطني"و"الاخوان"من مجرد سباق سياسي في البرلمان الى معركة يسعى كلا الطرفين فيها الى استبعاد الآخر. وإراقة الدماء والقتال الذي جرى اثناء مراحل الانتخابات الثلاث يدعو بالفعل الى تزايد المخاوف من أن ينتقل الصراع بهذا الشكل والحجم من الشارع إلى البرلمان. أما الناس العاديون الذين عانوا الأمرين ليتمكنوا من نيل حقهم في الاقتراع، فإن صدمتهم كانت كبيرة بما جرى في الانتخابات، وما صاحبها من تدخلات وتجاوزات وأعمال عنف وبلطجة وقتل ومواجهات بين قوات الأمن والناخبين، والنتائج الغريبة التي انتهت إليها المنافسة في دوائر بعينها، وهؤلاء لا يأملون كثيراً في حوار متحضر بين نواب"الوطني"وپ"الاخوان"بعد الصدامات التي وقعت بين الطرفين في مراحل الانتخابات. وربما يعتقدون بأن غياب ثقافة الانتخابات الحرة والديموقراطية الحقيقية لم تترسخ بعد لدى الاطراف المشاركة في العملية السياسية وأن الارادة لدي الدولة في تحقيق اصلاح سياسي حقيقي لم تفعّل إلا بالقدر الذي يحسن الصورة من دون ان يؤثر على طبقة النظام السياسي ويحقق تداولاً للسلطة? وفي كل الأحوال، فإن خريطة البرلمان المصري ستشهد تحولات مهمة وبزوغ نجوم برلمانية جديدة تسطع تحت قبة البرلمان سواء من الحزب الوطني أو من جماعة"الإخوان المسلمين"المحظورة وممثلي الأحزاب السياسية"الوفد"وپ"التجمع"وپ"الكرامة"تحت التأسيس، في حين ستخبو عنها نجوم برلمانية قديمة ملأت الحياة السياسية ضجيجاً طوال السنوات الماضية. وحقق"الوطني"الغالبية المطلقة بنسبة تصل إلى 57 في المئة من مقاعد البرلمان بإجمالي 326 مقعداً مما سيمكن نوابه من العمل بكل ارتياح وطمأنينة لتنفيذ خطط الحزب الاقتصادية والاجتماعية خصوصاً البرنامج الانتخابي للرئيس حسني مبارك الذي قدمه للمواطنين لإعادة انتخابه رئيساً للبلاد وقدم فيه خططاً لتحقيق مزيد من الاصلاحات الدستورية والقانونية لدعم النظام الديموقراطي وترسيخ حريات المواطنين وتشجيع العمل الحزبي وتعزيز دور البرلمان في مراقبة ومساءلة الحكومة وتبني نظام انتخابي أمثل لزيادة فرص الأحزاب والمرأة للتمثيل النيابي والغاء نظام المدعي العام الاشتراكي ومحكمة القيم وإعداد قانون جديد لمكافحة الإرهاب ليكون بديلاً لقانون الطوارىء ومنع حبس الصحافيين في قضايا النشر علاوة على خطة مواجهة البطالة وزيادة أجور العاملين وأصحاب المعاشات. لكن ما جرى في الانتخابات أثار الشكوك ودعم الرأي المعارض والقائل بأن القوانين والمواد الدستورية التي سيطلب"الوطني"تغييرها لن تصب في مصلحة الحزب الحاكم وستكون تحولاً حقيقياً نحو اصلاح سياسي لم يعد من الممكن تأخيره. نتائج الانتخابات أحدثت ما يشبه الزلزال في الحزب الوطني وتنظيماته داخل البرلمان، اذ سقط رموزه الذين كانوا يستعدون لتبوأ المواقع القيادية في هيئة مكتب البرلمان المكونة من رئيس المجلس والوكيلين بعد فشل وكيل البرلمان السابق السيد راشد في الفوز بالمقعد الذي نافس من أجله. ويدور صراع كبير بين نواب"الوطني"خصوصاً الذين خاضوا الانتخابات كمستقلين ثم انضموا الى الحزب بعد فوزهم، على نيل مواقع قيادية داخل اللجان النوعية التسع عشرة، إذ خسر في الانتخابات 9 من رؤساء لجان نوعية، آخرهم رئيس اللجنة الدستورية والتشريعية المستشار محمد مرسي تطلق عليه قوى المعارضة صفة ترزي القوانين مما يعرض الحزب إلى هزة عنيفة لاختيار ممثلين له في تلك اللجان نظراً للعدد الكبير من نواب المعارضة وپ"الاخوان"والمستقلين الذين سيسعون إلى احتلال مقاعد مهمة في تلك اللجان? وكشفت الانتخابات ذلك الفشل الذريع لأحزاب المعارضة إلى درجة أن عدد مقاعدها في البرلمان يقل عن عدد الاحزاب الموجودة في البلاد، اذ لم يزد عدد المقاعد عن 14 في حين أن عدد الأحزاب في مصر يبلغ 21 حزباً. وتمكنت أحزاب"الوفد"وپ"التجمع"وپ"الأحرار"وپ"الكرامة"وپ"الغد"من التمثل داخل البرلمان ولو بمقعد واحد بينما فشلت أحزاب"الناصري"وپ"الاتحاد"وپ"الاتحاد الديموقراطي"وپ"التكافل"وپ"الأمة"وپ"الوفاق"وپ"مصر 2000"وپ"العربي الاشتراكي"وپ"السلام الديموقراطي"وپ"الوفاق"وباقي الأحزاب المجمدة "العمل"وپ"مصر الفتاة"مثلاً في نيل أي مقعد. وجاءت جماعة"الاخوان المسلمين"في موقع الصدارة بين المعارضين بعد ما نال مرشحوها نصيب الأسد من المقاعد، وزادت مقاعدهم الى ستة أمثال ما كانت عليه في برلمان 2000. ونال"الاخوان"88 مقعداً وهناك سبعة مرشحين للجماعة آخرين سيتنافسون في ست دوائر لا تزال معلقة إلى حين تحديد موعد لإجراء الانتخابات فيها. وعلى رغم سقوط مرسي ونائبيه المهندس صابر عبدالصادق والسيد حزين، تحدثت مصادر"الاخوان"عن اسماء جديدة تصلح لتبوأ موقع رئيس كتلة الجماعة البرلمانية في مجلس الشعب، مثل النائب السابق الدكتور حمدي حسن. ويحتل حزب"الوفد"زعامة المعارضة بنوابه الستة بعد فوز نائب رئيس الحزب محمود اباظة وزملائه أحمد ناصر وصلاح الصايغ ومحمد عبدالعليم وطارق سباشي ومحمد مصطفى شردي، ليقتنص"الوفد"الليبرالي زعامة المعارضة في البرلمان من حزب"التجمع"اليساري الذي فشل في الاحتفاظ بها اذ لم يحصل إلا على مقعدين فقط وخسر أربعة مقاعد. وظل حزب"الأحرار"محتفظاً بمقعده وسيمثله طلعت السادات الذي يعتبر نفسه رئيساً للحزب ولا يعترف برئيس الحزب الحالي حلمي سالم. وكانت أكبر الخسائر لحزب"الغد"الذي فشل رئيسه الدكتور أيمن نور في الاحتفاظ بمقعده النيابي ولحقه نوابه الخمسة بينما عاد رجب هلال حميدة الذي كان انشق عن نور إلى البرلمان من جديد، إلا أنه لن يتمكن من تشكيل هيئة برلمانية داخل المجلس لعدم اكتمال النصاب القانوني لتشكيل الهيئة اذ يتعين وجود أكثر من نائبين للحزب الواحد، كي يحقق له تشكيل هيئة برلمانية. وعلى ذلك لن يكون هناك هيئات برلمانية لأي حزب داخل المجلس عدا حزب الوفد. وأظهرت النتائج الانتخابية أن تمثيل المرأة داخل البرلمان ضعيف بالقياس للبرلمان السابق اذ فازت أربع سيدات فقط من تسع سيدات كن منتخبات، إضافة إلى أربع معينات بقرار جمهوري. والفائزات الجدد هن: الدكتورة شاهيناز النجار وجمالات رافع وهيام عامر والدكتورة آمال عثمان بينما خسرت كل من ثريا لبنة وفايدة كامل وناريمان الدرملي وفريدة الزمر وزينب عبدالحميد وعزة الكاشف وعواطف تكلا وفايزة الطهطاوي - ودلت النتائج بشكل واضح الى أن فوز العدد الكبير من المعارضة والمستقلين بنسبة تفوق 52 في المئة من مقاعد البرلمان يعبر في شكل قوي عن رغبة الشعب المصري في التغيير على كل المستويات السياسية، اذ نجح نحو 340 نائباً جديداً ينتمون الى"الوطني"وباقي الأحزاب. وسيدخل هؤلاء الى البرلمان للمرة الأولى وهناك نحو 29 نائباً قديماً تمكنوا من الاحتفاظ بمقاعدهم النيابية، وفي كل الاحوال فإن طبيعة الاوضاع في البرلمان الجديد ستكون مغايرة عنها في المجلس السابق بحيث لن نرى المقاعد الخالية. ويأمل الناس في اختفاء الاستجوابات الهزيلة والأسئلة الضعيفة الموجهة لأعضاء الحكومة التي كانت تستهدف في المقام الأول الشهرة والظهور أمام كاميرات التلفزيون وعلى صفحات الصحف اليومية. وقد تستفيد الأحزاب من تجربة الانتخابات وتعمل بجد لجذب النسبة الكبيرة من الناخبين السلبيين وهم 57 في المئة من اعداد المسجلين في لوائح الناخبين لكنهم امتنعوا من المشاركة في الحياة السياسية.