قد لا يكون آحاد هاعام ، أو "أحد عامة الناس"، اسماً ذائع الصيت على رغم حضوره الدائم في تاريخ الحركة الصهيونية، ودوره الاستاذي للكثيرين من رموزها، فضلاً عن زعم الصهيونية الحديثة التفرعَ عن هرتزل وعنه معاً، على رغم العقبات، المنهجية والسياسية، التي يثيرها هذا الربط الرغائبي. بيد أن أهمية العودة إليه تنبع من مساهمته التي لم تفقد راهنيتها في موضوع لم يكف عن إثارة الأفكار والعواطف: موقف الصهيونية من السكان المحليين، أي الفلسطينيين. وإلى ذلك مثّل هاعام حالة نموذجية وحيّة على كيفية الوصول إلى موقف إنساني انطلاقاً من مقدمات أخلاقية يصعب وصفها بالحداثية التي كان "غربي" كثيودور هرتزل أقرب إلى تجسيدها والتعبير عنها. فهو صاحب ومؤسس "الصهيونية الروحية" التي اقتصر ما حاولته على تشكيل مركز ديني لليهود في فلسطين، من حوله يمكن ان تتبلور "الوحدة المثالية للأمة اليهودية المشتّتة". وهاعام المولود لعائلة حسيدية باسم آشر غينزبرغ عام 1856، ترعرع في سكفيرا قرب كييف بجورجيا، وانتقل في 1866 إلى مدينة أوديسا الروسية للعمل بالتجارة، إلا أنه انتخب، بعد ذلك بوقت قصير، عضواً في اللجنة المركزية ل "أحبّاء صهيون" التي كانت قبل أربع سنوات بدأت بانشاء مستعمرات دينية وتعبّدية في فلسطين. وقد أدى به مفهومه عن فلسطين كمركز روحي للاحياء القومي اليهودي، إلى نزاع مع الروسي ليو بنسكر صاحب كراس "التحرر الذاتي" الذي اعتبر أول نص صهيوني قبل النشأة الرسمية للصهيونية. فقد أكد بنسكر على أن "الحاجات الإنسانية" تأتي قبل المثل المجردة، وأبدى استعداده للاستقرار في أية أرض متاحة تحرر اليهود من وطأة اللاسامية وظلاماتها. وبدوره قام آحاد هاعام بزيارتين إلى فلسطين في 1891، لكنه عاكس الكثيرين من زملائه المأخوذين بالميل الكولونيالي آنذاك إلى تجاهل السكان المحليين، وبالاستعجال في الوصول إلى أرض يقيم فيها اليهود ويشعرون بحريتهم في معزل عما يحل بسكان الأرض الأصليين. فمنذ البداية رفض تجاهل وجود العرب هناك، وأشار في ذلك الوقت المبكر إلى أن من يفلح معظم الأراضي الصالحة للزراعة في فلسطين إنما هم العرب "الذين نميل إلى الاعتقاد أنهم همجيون يعيشون مثل الحيوانات ولا يعرفون ماذا يجري حولهم. وهذا، على أي حال، خطأ خطير". غير أنه ذهب خطوات أبعد، إذ حث على احترام السكان المحليين بلغة لا ينقصها الجزم والالحاح: "مع هذا، ما الذي يفعله اخوتنا في فلسطين؟ العكس تماماً. لقد كانوا أقناناً في أرض الدياسبورا، والآن إذ يجدون أنفسهم فجأة يتمتعون بحرية بلا عوائق، يصبحون طغاةً هم أنفسهم. إنهم يعاملون العرب بعداء وقسوة، فيحرمونهم حقوقهم، ويتطاولون عليهم من غير سبب، حتى أنهم يتباهون بأعمالهم، وما من أحد بيننا يعارض هذا التيار الخسيس والخطير". لقد كانت الاخلاقية الدينية اليهودية قلب نظرة آحاد هاعام القومية وروحها. وقد ظل حتى أواخر حياته يدين كل تسوية يمكن ان تفضي إلى التنازلات المبدئية على نحو يستدعيه الاعتبار السياسي. ففي 1913 كتب لصديقه موشي سميلانسكي معترضاً على المقاطعة اليهودية للعمل العربي: "في معزل عن الخطر السياسي لا استطيع أن أتعايش مع فكرة ان اخواننا قادرون اخلاقياً على التصرف بمثل هذه الطريقة مع بشر من شعب آخر ... وإذا كانت هذه هي الحال الآن، فعلى أي نحو ستكون علاقتنا مع الآخرين إذا ما أحرزنا حقاً، في آخر هذا الزمن، السلطة في أرض إسرائيل؟ فإذا كان هذا هو المسيح، فإني لا راغب في أن اراه قادماً". قبل ذلك، وفي 1897، حين انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بال بازل بسويسرا، حضره آحاد هاعام كضيف، فجلس بين المندوبين ك "متلقي عزاء في وليمة عرس"، بحسب أحد واصفي المؤتمر. وكمحرر في الشهرية العبرية الصغيرة إنما المؤثّرة "هاشيلواه" Hashiloah أوصل انتقاداته إلى جمهور عريض نسبياً، ولو أنه حرص على تقديمها في قالب مهذب ومعتدل. غير أنه بقي يربط النجاح الصهيوني بالثقافة والصلاح الاخلاقي كونياً. أما في المؤتمر الثالث فهُزم "الثقافيون" الذين كان يتزعمهم، منشئين الجناح الديموقراطي الصهيوني الذي استطاع، رغم ضعف تمثيله حوالي 20 مندوباً معظمهم طلاب جامعيون، أن ينتزع لنفسه نفوذاً ثقافياً وفكرياً يتجاوز اعضاءه بكثير. فقد ضم بعض الأسماء الشبابية اللامعة كحاييم وايزمان ومارتن بوبر وليو موتزكين، وكانوا كلهم في أوائل عشريناتهم، وبدت علاقة هرتزل بهم ملتبسة. فهو أعجب بمواهبهم الشخصية فسلّم أحدهم، برتولد فايفل، رئاسة تحرير "دي فيلت" ثم سلمها بعده لمارتن بوبر. بيد أنه كان يكره ثقافيتهم ويتخوف من "نقص سياسيتهم وواقعيتهم"، مراهناً على كسبهم عن طريق ممارسته الأبوية. ولئن اعتبرهم في بعض الأحيان عديمي المعنى والتأثير، فإن القيادي الصهيوني الآخر ماكس نورداو بدا أعنف في موقفه منهم، فصنّف اهتمامهم بالثقافة وعنايتهم بالروح قبل الدولة، بل قبل الحصول على المال، مضيعة للجهد وللوقت. وفي المؤتمر الرابع في 1900 حاول "الثقافيون" مجدداً وضع المسائل ذات الطابع الفكري على الأجندة، لكن الالحاح على "الوحدة" قضى على جهودهم بالاخفاق. وقد انطلقت معارضتهم هرتزل من تفسيره للصهيونية كردة فعل على اللاسامية، فاعتبروه تعريفاً سلبياً لأن الصهيونية عندهم ليست حركة، بل نهضة ثقافية وروحية أولاً، وبدل تركيزها على أهداف سياسية بعيدة المدى في مستقبل غامض وغير مضمون، ارادوا لها أن تؤكد على النشاط الهادف إلى رفع مستويات الثقافة والتعليم اليهوديين هنا والآن. وهذا التصور الهرطوقي لم يضعهم فقط في صدام مع هرتزل، إذ وجدوا أنفسهم يصطدمون أيضاً بالارثوذكس الذين اعتقدوا ان التوراة والتلمود يقدمان كل الثقافة والتعليم اللذين يحتاجهما اليهودي. وطرح المسألة على هذا النحو المهدد بالانفجار هو آخر ما كان هرتزل، المصرّ على "الوحدة"، يريده، لا سيما وأن الكثيرين من المتمردين علمانيون متطرفون وبعضهم اشتراكي. وفي التأريخ للحركة الصهيونية يُعتبر المؤتمر الرابع لحظة الذروة في صدام الخطين، هو الذي كان اكبر المؤتمرات حتى ذلك الحي فضم 400 مندوب. غير أن نزاعاً آخر انفجر خارج المؤتمرات وكان بمثابة مواجهة مباشرة بين هرتزل وآحاد هاعام. ففي 1902 وبعدما أصدر الأول روايته "الأرض الجديدة القديمة" التي شاءها وصفاً لدولته الطوباوية المرجوة، كتب الثاني نقده الشهير الذي كاد يتسبب في انشقاق الحركة كلياً. والحال أن رواية هرتزل تلك استقبلها الصهيونيون جميعاً بحذر يقرب الرعب، إذ ايقظت الشكوك بمدى ولائه لصهيون، هو العلماني والمندمج سابقاً. وحتى المقربون منه أقلقهم غياب أي شيء يهودي محدد في هذه النسخة الطوباوية عن الدولة اليهودية، لكن آحاد هاعام كان أول من تصدى للكتاب كتلمودي علماني في آن. فقد ابتدأ بتصفية الحساب مع الطابع الخرافي للرواية لا على أساس ادبي، الشيء الذي لم يستوقفه كثيراً، بل لأنه اعتبر هذا الطابع تمثيلياً في تعبيره عن فانتازيات هرتزل والصهاينة "السياسيين". فمجرد ان تقترح الرواية توطين أغلبية يهود العالم خلال 20 سنة في كومنولث طوباوي على المتوسط، هو بالتعريف ديماغوجيا عديمة المسؤولية: ذلك أن "المثال التاريخي يستدعي تطوراً تاريخياً، والتطور التاريخي يتحرك بايقاع بطيء". لكن ما الذي كانته بالضبط طبيعة هذه الطوبى التي تستوطن الرواية، وما الذي كشفته في ما يتعلق بعقلية صاحبها؟ كان كل شيء فيها، تبعاً لآحاد هاعام، منسوخاً عن أنماط غريبة. فالأمر يتعدى كون اليهود لم يساهموا بشيء من عندهم فيها، إلى ظهورهم كائنات بالغة القلق في رغبتهم أن لا يلعبوا الأدوار الأساسية في الرواية. وما سبب ذلك، في رأيه، إلا شدة اهتمام المؤلف بطمأنه العالم الخارجي. وبعد مناقشته اخفاق هرتزل في أن يتناول حتى مسألة اللغة في دولته الطوباوية، مضى آحاد هاعام مشيراً إلى أوهامه في ما خص العرب وموقفهم من الوافدين الجدد. ف "السلام والحب الأخوي يسيطران على علاقتهم باليهود الذين لم يأخذوا شيئاً منهم، بل اعطوهم الكثير". ولا يكتم الناقد سخريته ملاحظاً ان هذه العلاقة كانت لتكون ممتازة حقاً لولا أنه "من غير الواضح تماماً كيف استطاع المجتمع الجديد أن يحرز ما يكفي من الأرض لملايين اليهود، من كل انحاء العالم، ما دامت كل الأراضي الصالحة للزراعة التي في أيدي العرب ... ستبقى في أيديهم كما كان قبلاً". ومرة أخرى كلّف هرتزل ماكس نورداو بكتابة رد جاء قاسياً جداً، فصبّ الملح على جرح رجل ظل يناهض التيار السائد في وسطه إلى أن توفي في تل أبيب عام 1927. على أن آخر عباراته في الشأن العام، وقد وردت على شكل رسالة إلى محرر "هاآرتس"، لم تكن قليلة الدلالة. فقد تناول خبراً شاع يومها بأن مستوطنين يهوداً قتلوا انتقاماً لبعض قتلاهم على أيدي العرب، صبياً عربياً، فكتب: "ماذا سنقول إذا ما تبيّن أنها حقيقة؟ يا إلهي؟ هل هذه هي النهاية؟ هل هذا هو الهدف الذي قاتل لأجله أجدادنا وفي سبيله عانت الأجيال كلها؟ هل هذا هو حلم عودتنا إلى صهيون؟". وتعرض هاعام الذي لم تكن الشعبية تهمه كثيراً، لانتقادات وهجومات حادة، من دون أن يمنعه ذلك من البقاء صوتاً لضمير معذّب ومنحاز للحق. فكان الفارق الأساسي بينه وبين هرتزل، كما أوجزه ارنست باويل أحد كاتبي سيرة الثاني، ان آحاد هاعام اهتم أساساً بالذي يفعله اليهود بأنفسهم ولأنفسهم، فيما اهتم خصمه بما يفعله غير اليهود لليهود. * كاتب ومعلق لبناني