الإسم الأكثر تداولاً للتحالف الأهم ضد الفقر في عالم اليوم هو"ليصبح الفقر ماضياً"، أو Make Poverty History. وهو إسم يحمل تفاؤلاً ثورياً يريد أن يتحدى العناد المدهش للفقر والذي رافق الإنسان منذ فجر التاريخ. الإستمرار الغاصب للسعادة الذي أبداه الفقر حير فلاسفة وعلماء وأنبياء, وجعلهم جميعاً يتوقون للحلم السرمدي برؤية عالم يخلو من الفقراء الذين يدفعون ثمناً باهظاً لجريمة لم يرتكبوها, إذ شاءت أقدارهم أن ترمي بهم في هذا الصقع الفقير من العالم أو ذاك. لكن ألم تبلغ البشرية قدراً من النضج والقدرة والتراكم المعرفي والعلمي والأنواري بما يؤهلها لإنجاز المهمة الكبرى في إحلال قدر من المساواة بين البشر. بشرية اليوم تواجه أرقاماً مهولة أهمها أن ثمانية ملايين إنسان يموتون سنوياً بسبب الفقر، أي بمعدل عشرين ألف يومياً. غالبية هؤلاء يموتون بسبب فقدان الإحتياجات الأساسية من الماء الصالح للشرب أو الحد الأدنى من الغذاء، أو بسبب أمراض يسهل معالجتها مثل الإسهال والجفاف. يحدث هذا في عالمنا الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة في تحقيق الرفاه الإقتصادي لأجزاء من البشرية، ومستويات غير مسبوقة من العلم والتكنولوجيا. وهي المستويات التي تأمل كثير من فلاسفة القرن التاسع عشر والعشرين بأنها ستساهم في تحقيق المساواة والعدالة بين البشر. آخر الاطروحات المهمة للقضاء على الفقر العالمي يقدمها جيفري ساكس، الإقتصادي الأميركي الأشهر، المهموم بإقتصادات الدول الفقيرة، ومستشار كوفي عنان في شؤون الفقر العالمي. ساكس يقول بأن القضاء على الفقر العالمي مهمة مقدور عليها، وتقع في إطار الممكن وليس الحلم، وأن بالإمكان إنجازها خلال عشرين سنة فيحل عام 2025 وقد إختفى أفقر الفقراء في العالم. ليس معنى ذلك أن أن الغنى والرفاه يمكن تحقيقهما للكل، لكن الهدف الرئيسي هو مساعدة 1,1 بليون انسان يقل معدل دخلهم اليومي عن دولار واحد بما يتضمنه ذلك من ماء وغذاء ودواء, ويعتبرون الشريحة الأكثر فقراً في العالم والتي تمد جداول الموت بالأرقام المرعبة كل يوم. ينفي ساكس عن رؤيته التفصيلية لإنهاء الفقر والتي ضمنها كتابه الأخير نهاية الفقر: كيف نحققها في حياتنا، End of Poverty: How we can make it happen in our life سمة الطوباوية والمثالية، وهو في سياق دفاعه ذلك يعود إلى سيرة الإقتصادي الإنكليزي الشهير جون مينراند كينز المنظر الكبير لدولة الرفاه الغربية. يقول ساكس إن كينز عندما تأمل في الأوضاع الإقتصادية المتردية لبريطانيا إبان الكساد الكبير في ثلاثينات القرن العشرين، وكتب كتابه الأشهر"الفرص الإقتصادية لأحفادنا"، كان يكتب برؤية واضحة رغم سوداوية الظروف المحيطة به. وعندما صاغ نظرياته التي أنقذت الإقتصاد البريطاني ثم لاحقاً الأقتصادات الأوروبية برمتها وأسست للإنتعاش الإقتصادي الكبير وأنهت الفقر، كانت بوصلته المستقبل وإمتلاك القدرة على التغيير. ساكس يحذو حذوه ويقول إن القضاء على الفقر في الدول الأكثر فقراً في العالم هو"في مقدورنا ويمكن إنجازه ليس في حياة أحفادنا، بل في حياتنا نحن". ويقول إن تراكم الخبرة العلمية والكشوف العلمية المتواصلة وإنتهاء الصراع المدمر بين الشيوعية والرأسمالية تتيح فرصة حقيقية يجب إنتهازها للتخلص من الفقر العالمي. وربما سنحكم على كتاب ساكس بعد عشرين سنة في ظل الوقائع التي ستثبت عملية وواقعية طرحه أم طوباويته. تقوم رؤيته على فكرة محورية هي إقناع أو إجبار الدول الغنية على مساعدة الدول الفقيرة وفق برنامج زمني محدد وواضح ينتهي عام 2025 حين يخرج من تحت خط الفقر العالمي المليار فقير وأكثر. يدرك ساكس أن مثل هذا الطموح يتطلب جهوداً جبارة, لكنه يراها غير مستحيلة، ويشترط فيها أن تكون جماعية وشجاعة وفيها قدر من الحرص على مستقبل الكرة الأرضية. الأطروحة لا تنطلق من أرضية"الصدقة وعمل الخير"وحسب، بل تستند إلى أن مصلحة سكان الأرض، وبالدرجة الأولى المجتمعات الغنية والقوية، تكمن في القضاء على الفقر الذي إن لم يُقضَ عليه سيظل موطناً لكل الأمراض المعولمة التي لن تنجو منها مجتمعات العالم الصناعي الهانئة بمستويات معيشة رغيدة. ومن ناحية عملية ورقمية وبحسب حساباته وإستقصاءاته في الكتاب فإنه يرى إن القضاء على الفقر يتطلب تدوير ما بين 70 إلى 80 بليون دولار سنوياً لتصب بإتجاه الدول الأكثر فقراً، وأن مصدر هذه الأموال يجب أن يكون من الدول الغنية. ويشرح ساكس أن الحصول على هذا الرقم الذي لا يبدو كبيراً بالمقارنة مع حجم الإنفاق العسكري الهائل، حيث أن حرب العراق لوحدها ستقترب كلفتها من حاجز ال 300 بليون دولار، فيما كانت حرب فيتنام بلغت نحو 500 بليون، وكلاهما لم تحققا سوى مزيد من الحرب والإرهاب والدمار. والرقم المطلوب جمعه سنوياً، أي نحو 70 إلى 80 بليون دولار، ومن ثم إستخدامه لتنمية وتطوير العالم الفقير وإنهاء العوز فيه سيكون عن طريق إستقطاع ما نسبته 0,07% من الناتج القومي العام من الدول الغنية وتخصيصه لبرامج القضاء على الفقر في الدول المعدمة. وهو يقول إن حشد الجهود العالمية وراء هذا الهدف، أي إستقطاع تلك النسبة بهدف للقضاء على الفقر، هو أمر أسهل بكثير من الجهود التي تطلبها القضاء على الإستعمار خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ساكس يكتب بروحية عصر الإستنارة، بتفاؤل روادها الأوائل بأن العقلانية والرشد يمكن أن ينتصرا على العاطفة واللاعقلانية. يقدم تفاؤله بحذر مدروس فهو لا ينساق إلى أي من الحتميات، ولا يتبنى"المنطق الوضعي"الكلاسيكي الضارب جذوره في فلسفة القرن التاسع عشر ورمزها الأكبر أوغست كونت. وهو المنطق الذي لا يقول بحتمية أنتصار العقلانية وحسب، بل يبرر أقسى الطرق العنفية لتحقيق ذلك الإنتصار، وهو ما أستندت إليه التطبيقات القصوى للعقلانية مثل النازية والفاشية والستالينية والشيوعية. يقول إن مشروع الإستنارة ما زال ممكناً، وأن التراكم التاريخي للعلم والمعرفة والتجارة والتعاون يمكنه أن يدحر منطق الحرب والإنجرار وراء العواطف القومية المسعرة للكراهيات. ولعل إعادة تأهيل مشروع الإستنارة في كتاب ساكس يمثل أطروحة أساسية في وجه أطروحات الصراع الحضاري والحتميات الحربية التي ينظر لها أنصار المنطق الهوبزي في قراءة التاريخ. يقول ساكس إن التراكم المعرفي الإستناري قام على أركان أربعة غيرت وجه العالم, كل ركن فيها دعم الأركان الأخرى وعزز منطق التقدم البشري. وهذه الأركان هي أفكار توماس جيفرسون في إعتبار المؤسسات السياسية والحاكمة من صنع الإنسان نفسه ولخدمة الإنسان, وليست من صنع الغيب أو الكنيسة أو أية مرجعيات غير إنسانية, وأفكار آدم سميث في إعتبار التجارة الحرة أساس الإقتصاد والرفاهية المؤملة وأن المجتمع المفتوح إقتصاديا يصعب السيطرة عليه من قبل الدكتاتوريات، وأفكار إيمانويل كانت في نبذ الحرب بين الشعوب وإقتراح السلم الدائم عن طريق التعاون وإحترام السيادات وصوغ نمط علاقات دولية يقوم على التجارة والنفع المتبادل وليس الحرب، وأخيراً أفكار جان ماري أنطوان المنظر الفرنسي الأشهر للإستنارة والذي نظر الى قيمةالتقدم العلمي ومركزيته في تحسين أوضاع الإنسان وإيلاء العلم والتعليم قيمة أساسية في الإجتماع البشري. ساكس يرسم رؤيته إمتداداً لتلك الأركان الأربعة ويرى أن جيلنا يمكنه أن يقوم بمهمات إستكمال مشروع الإستنارة عملياً وذلك عن طريق إستمرار محاولة تحقيق المساواة والعدالة بين البشر، ويأتي في قلب ذلك الإستكمال مشروع إنهاء الفقر. يقدم ساكس في معرض تفصيل رؤيته للقضاء على الفقر العالمي رأيه في الحركة المناهضة للعولمة بإعتبارها تضع محاربة الفقر في العالم في مقدمة أولوياتها. وهو يرسم موقفاً بالغ الدقة والتوازن إزاء هذه الحركة ونشاطاتها. فمن ناحية يقر بتقدير بالغ الحمولة الأخلاقية التي تنطوي عليها والمنطلقات الإنسانية التي تستند عليها. وهو يقول أنه لولا نشاطاتها الفعالة في طول وعرض العالم وخاصة على هامش الإجتماعات الهامة والكبرى للمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي أو منظمة التجارة العالمية أو إجتماع قمة الثماني فإن كثيراً من القضايا التي تخص العالم النامي مثل شطب الديون، والأيدز، والتنمية، والبيئة، ما كان لها أن تصعد إلى رأس الأجندة الدولية. لكن من ناحية أخرى فإن ساكس لا يوافق الحركة في العديد من طروحاتها. فهو يقول رغم أن نداءاتها ضد تغول العولمة ولمناصرة فقراء العالم مهمة وإنسانوية فإن الحركة تفشل في تشخيص أسباب المعضلات العالمية, خصوصاً عندما تقف موقفاً حاداً ومتطرفاً ضد التجارة الحرة أو الإستثمار الخارجي والشركات العابرة للحدود. ويدلل على خطل موقف الحركة المناهضة للعولمة من تلك القضايا عبر الإحصاءات والارقام التي تشير إلى إرتفاع معدلات الإستثمار الأجنبي في البلدان النامية رفع من مستوى دخل الأفراد والناتج القومي العام. إضافة إلى أن التجارة الحرة والإقتصاد المفتوح، وعبر الأربعين سنة الماضية، أثبت القدرة على تخفيف مستويات الفقر في العالم. ففي الهندوالصين مثلاً حقق الإنفتاح الأقتصادي الذي شهده البلدان في عقد التسعينات نتائج واضحة من ناحية تخفيض عدد من هم تحت الفقر بمئتي مليون في حالة الهند، وثلاثمئة مليون في حالة الصين. كما يقول إن أحد الأخطاء التي يرتكبها مناهضو العولمة يتمثل في إحالتهم مسؤولية تنظيم الإقتصاد الدولي إلى الشركات متعدية الحدود والنظر إليها بكونها الجهة التي ترسم حدود اللعبة الإقتصادية في العالم. بينما يرى أن الجهد يجب أن يوجه إلى الحكومات التي هي المسؤول الأول عن صوغ قواعد التجارة الدولية وأن صوغها بطريقة سليمة سيخضع الشركات العالمية بشكل آلي لتلك القواعد. يقترح ساكس على الحركة المناهضة للعولمة أن تتحول إلى حركة مؤيدة للعولمة, ولكن مؤيدة لعولمة جديدة مضمونها دعم الفقراء وتخليص أفقرهم من الفقر، والتوجه نحو البيئة وإعادة قولبة جدول العولمة الحالية. وهو يسمي تلك العولمة المستنيرة ويربطها بمشروع الإستنارة الأنواري ويرى فيه إستكمال له. العولمة المستنيرة هي العولمة التي تركز على نشر الديموقراطيات، والتعددية التعاونية، والإقتصاد المبني على تحقيق حاجات الفقراء والقضاء على فقرهم، ونشر العلم والتكنولوجيا وتسهيل الوصول إليهما. وفي سياق العولمة المستنيرة يصبح من المطلوب من الحركة المناهضة للعولمة أن تركز جهودها على الدول الكبرى لتحترم إلتزاماتها ولتقوم بإلتزامات جديدة, وخصوصا الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية. وتدعم بإتجاه زيادة الإستثمار الأجنبي لا التقليل منه. والضغط على الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص للتخلي عن سياستها الإنفرادية الأمبرطورية وتعود إلى الى التعددية والتعاون مع بقية دول العالم. ساكس الأميركي يدرك بالطبع مركزية دور الولاياتالمتحدة في إنجاح أو إفشال اية مشروعات معولمة وطموحة كالتي يدعو إليها. وهو يرى أن تلك المركزية، كما هي الآن إذ تُدار من قبل التسيس الإمبريالي الإنفرادي للمحافظين الجدد، لا يمكنها إلا أن تكون عامل إفشال لأي مشروع معولم. لذلك فهو ينتقد بلا تردد رؤية المحافظين الجدد للعالم وإنعزالهم عن الواقع الدولي وسياستهم الإنفرادية الإمبريالية, ويرى بأنه لا مستقبل لرؤيته في ظل تواصل السياسة الإمبريالية للولايات المتحدة، كما هي متجسدة بشكل لا يحتاج إلى تدليل في مغامراتها الجسيمة في حرب العراق. كاتب وباحث اردني/ فلسطيني - كمبردج بريطانيا.