يفعل كتّاب الرواية السورية الجدد حسناً اذ يؤسسون تجاربهم الابداعية في سياقات مغايرة عمن سبقهم، إما توغلاً في تجريبية شكلية، أو من خلال اختيار موضوعات اجتماعية وفكرية ظلت بكراً، ولم تكتشفها اقلام الروائيين، كما يفعل اليوم محمد زهرة في روايته الاولى المثيرة للجدل"الظلمة"، في مغامرة تحمل الكثير من الجرأة، باعتبارها رواية اولى من جهة، وايضاً بسبب موضوعها بالذات. محمد زهرة يتقدم الى عالمه الروائي بعدة فكرية وفلسفية تتشابك فيها النظرات الثقافية، مثلما تتعدد زوايا الرؤية وطرائق الفهم والتفسير، على أن الاهم - والاشد تعقيداً في ذلك كله - سلاسة ادخال تلك المفاهيم ودمجها في جسد النص الروائي، كي يبدو ذلك طبيعياً ومن نسيج واحد، على رغم بضع ملاحظات لا بد منها، وخصوصاً حول المغالاة التي يلمسها القارئ في بعض مواقع الرواية في ما يتعلق بالسردية الفلسفية، التي هي سردية، وتتعلق وتتمحور بمقولات واحدة قالها الكاتب وشدد عليها منذ الصفحات الاولى لروايته، بحيث بدت تلك المغالاة ثقيلة الوطء، وعلى حساب السردية الحدثية الروائية وما تحمل من بنيات فنية. "الظلمة"رواية لم تسمح الرقابة بطباعتها، بسبب توغلها في موضوع بالغ الحساسية يتعلق بالاديان وكيفيات فهم أو تفسير العلاقة بينها وبين البشر جماعات وافراداً، وهو موضوع يقع في صلب البنائية الفكرية - الفنية للرواية ويشكل عمودها الاساس الذي تدور من حوله الاحداث وتتفرع التفاصيل التي يوزعها الكاتب على ألسنة ابطاله في انتقائية فكرية تجعل من هذه الرواية عملاً فكرياً وفلسفياً بامتياز. وبعد قرار الرقابة بعدم طباعتها اصدرها الكاتب على نفقته. رواية محمد زهرة تقدم عالمين متناقضين من الشخصيات، ينتمي كل منهما الى فضاء مختلف وايضاً الى مفاهيم فكرية مختلفة، بل شديدة التناقض والمغايرة، فبينما يحمل"الجد"و"الحفيد"و"الحفيدة"و"الرواية"صور عالم محدد يزدحم بالثقافة والمعرفة وصور الحياة العصرية، تقبع شخصيات الرواية الاخرى في زاوية مناقضة، هي البدائية/ أو"الغابية"كما يحلو للكاتب ان يسميها. تلك شخصيات"الانثى"و"الراعي"و"آدم"، وهي كلها اسماء يقصد الكاتب دلالاتها الى حد يجعله يستخدم هذه الدلالات كأسماء طوال الرواية، من دون ان يشير الى الاسماء الحقيقية. وهنا ايضاً يبدو واضحاً حرص محمد زهرة على الغاء الفواصل بين صور هذه الشخصيات في اذهاننا كقراء، وما تبثه من آراء ينتمي كل واحد منها الى عالمه وما فيه من تناقضات مع العالم المقابل، تناقضات ستقول الرواية بعد ذلك انها قابلة للتلاقي، أو كما يفضل الكاتب أن يقول انها خطان متوازيان ولكنهما مع ذلك يلتقيان، في صورة تخالف ما عرفناه في كتب العلم. تبدو الشخصيات المثقفة في رواية"الظلمة"نخبوية، تحمل مفاهيم فكرية وفلسفية يؤمن اصحابها بأهمية بل بضرورة ان تكون ميزان حياتهم وتصرفاتهم اليومية. أهم هذه المفاهيم هو مفهوم الحرية، ورفض الانصياع لقوانين المجتمع، وفي الوقت ذاته التحرك برغبة جامحة في تطبيق ما يحملونه من افكار في بيئة اجتماعية مناسبة، يعثرون عليها في عالم الشخصيات الاخرى، البداية، وذات الوعي الفطري والعلاقات الانسانية الاقرب الى الغرائز التي لم تتشوه بعد بما في الحضارة المعاصرة من عوامل تشويه. عالمان من وعيين حضاريين مختلفين يضع الكاتب واحدهما في مواجهة الآخر، ويقدم صورتيهما منسوجتين من تفاصيل صغيرة، كما لو من شعارات ومقولات كبرى. هنا يبدو واضحاً للقارئ ومنذ البداية انحياز الكاتب - ومن ثم انحياز الرواية - الى مثالية العالم البدئي، الى نقائها وطهارتها على رغم تلوثها الخارجي الذي تشير اليه بدائية الشخصيات وعدم معرفتها بأساليب النظافة الشخصية اليوم كالاغتسال مثلاً، في اشارة ذات مغزى الى تركيز الكاتب والرواية على طهارة الروح ونقاء السريرة ونظافة المقاصد والنيات. هذه الثنائية التي تنتصر للمفاهيم البدائية تدفع الكاتب وأبطاله الروائيين الى القبض على صورة العالم البدائي وما فيه من علاقات انسانية باعتباره فضاء روائياً يمكن ان يكون حلاً للرواية الذي يبحث من دون فائدة عن موضوعات حيوية لرواية اولى يكتبها، ولا يرغب في ان تكون مكرسة لموضوعات الحياة العصرية التي صار يراها مكررة في روايات الآخرين. هذه النظرة المثالية اذ تقصد هجاء عالم الحياة المعاصرة، وما فيه من اثقال تطأ الارواح والنفوس، تقع هي الاخرى، في تقديس كل ما هو بدئي، في صورة تضعنا امام عودة جديدة لمقولات مثالية سابقة عن الخلاص الممكن للانسان المعاصر من خلال حل وحيد، هو هجر الحياة المعاصرة بكل ما فيها من مظاهر تطور تثقل الارواح والنفوس، أو بدقة اكثر، من دعوة للعودة الى الطبيعة البكر، أو الطبيعة الام كما يسميها الكاتب، وكما يشير اليها في مواقع كثيرة من روايته حين يعقد مقارنات متكررة بين رحم الام وبين حفرة القبر، وكذلك"كهف الشجرة"الذي تصنعه العواصف حين تكسر من الشجرة العملاقة احد اغصانها. اهمية رواية محمد زهرة"الظلمة"، تقع في حواراتها بالذات، بل في ذلك التقابل الفني بين عالمين كل واحد منهما مثقل بأساليب عيشه، كما بحله لمعضلات ذلك العيش. الافكار في هذه الرواية تقف في صلب بنية أو معمار الرواية، ومع ذلك اظن ان زهرة نجح في اخفاء شخصيته وفي تمويه دوره الشخصي ككاتب، فلم نلحظ ثقلاً يمكن ان يهدد سردية الرواية، باستثناء مقاطع سردية فلسفية اشرنا اليها في مطلع هذه الرواية، وهي مقاطع يمكن حذفها بيسر من دون ان تتأثر روايته خصوصاً وان تحمله من مفاهيم ومقولات سبق للكاتب ان قدمها في مطلع هذه المقالة، بل هو ايضاً ثابر عليها في كل اجزاء الرواية وإن يكن في تقديم خفيف لا يقارن بتركيز تلك المقاطع. محمد زهرة في روايته الاولى"الظلمة"، كاتب يعد بالكثير، ووعده يلوح لنا من خلال قدرته على تقديم بنائية روائية متماسكة وذات نسق جميل، وفي الوقت ذاته تمكنه من تقديم تشويقية تحث القارئ على متابعة القراءة، على رغم اختلافنا البيّن مع فكرة هجر الحضارة الحديثة بسبب عيوبها الكثيرة، وأهمية معالجة هذه العيوب من داخل الحضارة ذاتها، لا بالانقلاب عليها والفرار منها.