في ظل أحداث أسبوع ساخنة شهدت إصدار تقرير ديتليف ميليس الذي قلب الدنيا ولا يزال، البعض وصف نتائجه المحتملة بالزلزال، كما شهد الأسبوع عينه تقديم صدام حسين ومن معه إلى المحاكمة في بغداد، وهي محاكمة تاريخية بكل المعاني. في هذا الأسبوع الساخن جرى تناسي أو حتى تجاوز تقرير آخر صدر في الفترة نفسها، وهو أهم واخطر كثيراً على المدى المتوسط والطويل لهذه المنطقة والمستقبل من كل الأحداث المذكورة، واقصد به تقرير منظمة الشفافية العالمية حول الفساد في العالم، ومن ضمنه منطقتنا العربية، التي أصبحت مشهودة بانتشار الفساد المعطل للتنمية فيها. وإذا كان هذا التقرير قد تم تجاوزه هذه المرة، فلعل التذكير بأنه تقرير سنوي سيظل معنا سنوياً وبأنه في يوم قريب سيكون هو التقرير الفيصل. ولعل مقدمات ونتائج تقرير ميليس، كما أن ظروف تقديم صدام حسين ومن معه للمحاكمة، كلا الحدثين الكبيرين مرتبط بشكل ما بالفساد السياسي والاقتصادي الذي تشكو منه المنطقة العربية والذي انتشر واستشرى حتى أصبح يقود الى كل الشرور. بل أن تقرير ميليس وملف الاتهام لصدام ذكرا الفساد تحديداً كأحد العناوين المهمة، إذ تؤدي ممارسته في نهاية المطاف الى ما يحدث في لبنان وما جاورها، وفي العراق وجواره من إحداث صاخبة. على رغم انتقال الدلالة في المعنى المقصود بالفساد فان المفهوم بمعناه المطلق قد غلظ الله في الإسلام عقوبته إلى حد جمع القتل والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف لمن مارسه، تلك العقوبة الرادعة في النص القرآني جاءت لعظمة سوء العمل عند الله، وهو عظيم عند الناس اليوم حتى بانتقال دلالته إلى الممارسات المعروفة. الأرقام مذهلة في هذا الموضوع، فطبقاً لأحد تقارير البنك الدولي المنشورة، يفيد بأن معدل كلفة الرشوة ضمن مؤسسات تتعامل دولياً يقدر وحده بثمانين بليون دولار سنوياً. وحتى اليوم فإن دولة واحدة في العالم هي الولاياتالمتحدة التي سنت قانوناً ضد الرشوة عام 1977 وهو الخاص بممارسات الفساد في التعاملات الخارجية، منعت بموجبه ممارسة الرشوة في الحصول على الصفقات، وفُعّل القانون فقط في السنوات الأخيرة، بعد انتهاء الحرب الباردة. ومن الملاحظ انه استناداً إلى مصادر في وزارة التجارة الخارجية الأميركية، فإن الشركات الأميركية قد خسرت بسبب هذا القانون في عامين 1994 و 95، ما قيمته خمسة وأربعين بليون دولار من العقود الخارجية بسبب عدم قدرتها قانوناً على دفع الرشى! لا بد من التعجيل بالقول أن الدول الكبرى والحكومات الغربية، قبل سقوط حائط برلين، وانتهاء الحرب الباردة، أي قبل تسعينات القرن الماضي، كانت تدعم الطغاة في كل قارة لتأمين الدعم لجدول أعمالها الجيوسياسي المضاد لأعدائها الإيديولوجيين، وكان معظم هذا الدعم الذي يقدم بواسطة مؤسسات ومنظمات دولية وضمن هذا الدعم تشجع الفساد والفاسدين في تلك الدول. الوعي بأن مثل هذه الممارسات من دعم الفساد يحدث أضراراً بالغة لدى الشعوب تتخطى بمراحل كل الأرباح السياسية الممكنة، جاء فقط مع بعد بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث تبين بما لا يخالطه الشك، أن المخاطرة أعظم وأكبر من أي ربح جانبي وموقت تحصل عليه تلك الدول، فقد ظهرت للدول الكبرى الأثمان الباهظة التي يمكن أن تدفعها من رصيد أمنها واستقراها باستمرارها دعم الفساد. وقصة إنشاء المنظمة الدولية للشفافية قصة تستحق أن تروى. بيتر إيغن الكندي، مؤسس منظمة الشفافية العالمية والرجل الذي يقف اليوم وراء هذا التنظيم الشبكي المتسع وغير الحكومي، كان يعمل في البنك الدولي كمدير إقليمي لقطاع شرق إفريقيا، وهاله إنفاق أموال المساعدات الدولية في غير مكانها فجلها يذهب رشى وإكراميات متسرباً عما خصص له في الأصل، وهي برامج التنمية. اشتكى إلى رؤسائه من الظاهرة، وبعد فحص القواعد القانونية تبين أن البنك الدولي لا يستطيع قانونياً أن يفعل أي شيء في ذلك الاتجاه، أي تقليص المتسرب من الأموال في غير ما خصص له. وقتها قرر بيتر إيغن أن يستقيل من البنك، واخذ على عاتقه مع بعض أصدقائه أن يقوموا بشيء مفيد يخدم هدفهم في محاربة الفساد. وظهرت فكرة منظمة غير حكومية لمحاربة الفساد، كان ذلك قريباً جداَ في التاريخ، أي في بداية التسعينات من القرن الماضي. اتسم عمل المجموعة المستقلة التي شكلها إيغن بصعوبات بالغة، ولكن الفكرة كانت ولدت في وقتها. سعى المنضمون إلى أن يكون الوليد الجديد مستقلاً ليتمكنوا من محاربة الضرر الأكبر الفساد وفضحه في أي مكان من العالم بصدقية عالية، على أساس أن الفساد عملية غير أخلاقية، ويمكن بناء تحالف دولي واسع لمحاربته. عقدت المنظمة مؤتمرها الأول الافتتاحي في برلين عام 1993 بحضور أكثر من سبعين مشاركاً من كل القارات المأهولة. ووضعت منظمة الشفافية الدولية التي سميت بهذا الاسم نصب عينها مجموعة من الأهداف، من بينها جمع وتحليل ونشر المعلومات لزيادة الوعي حيال اثر الفساد المالي و السياسي المدمر في التنمية البشرية وإشاعة الفقر وتعميق الأحقاد الاجتماعية التي تقود في النهاية إلى الإرهاب. وعملت المنظمة على بناء التحالفات الواسعة بين المتضررين من جماعات المجتمع المدني وأصحاب العمل أو متلقين للمعونات الدولية، ثم قررت إنشاء فروع وطنية تطوعية في كل بلد يتاح لأهله ممارسة مثل تلك القدرة على التنظيم ، ودعم هذه الفروع لتنفيذ مهماتها. وساعدت وسائل الإعلام العالمية منظمة الشفافية على نحو كبير في زيادة الوعي العام بمطاردة الفساد والمفسدين، وأصبح هناك تقرير سنوي أو مؤشر يصنف دول العالم من مرتبة الأكثر فساداً إلى الأقل فساداً، ينشر عالميا، كما ينشر على بوابة الكترونية هي موقع المنظمة في الشبكة الدولية للانترنت، بل أن هذا الموقع يسهل للراغبين كل المعلومات المتاحة حول الفساد في بلدانهم بضغطة زر لا غير في أي وقت يشاؤون. في غضون اقل من خمسة عشر سنة اثر تقرير المنظمة الدولية لمحاربة الفساد إلى درجة انه غيّر أو ساعد على تغيير حكومات عديدة. وعلى سبيل المثال، فبعد إصدار مؤشر الفساد لعام 1996 الذي وضع باكستان في مرحلة متقدمة منه، واجه أعضاء المعارضة في البرلمان الباكستاني رئيسة الوزراء آنذاك بنازير بوتو بنتائج الإحصاء والأرقام، فثارت غضباً وادعت أن إدارتها هي الأكثر نزاهة في تاريخ باكستان، تلت ذلك تظاهرات في الشوارع، وبعد أيام قليلة أقالها الرئيس من منصبها، بعدما تأثر قراره بما ورد بالمؤشر. وما لبثت بنازير بوتو أن شهدت خسارة ساحقة في الانتخابات اللاحقة، ولم تعد لها حظوظ منذ ذلك الوقت بالعودة للممارسة العمل السياسي. ومثل ما حدث لباكستان حدث لعدد من الدول في وقت ما، منها بنغلادش ونيجيريا. بعض الدول كان استجابته مختلفة لتقارير المنظمة، فقد طلب من المنظمة مساعدتها في دراسة كيفية محاربة الفساد والتقليل منه. واليوم هناك حوالي مئة فرع في مئة دولة تقريباً تساند المنظمة، بعضها ناشط وفاعل يصدر التقارير والدراسات الفاضحة للتكتم وعدم الشفافية، وبعضها شكلي. لقد تعرضت المنظمة نفسها لضغوط لتحسين عمل المؤشرات التي تعتمدها، وتوسيع نطاق المسح الميداني وتجويده، وتقاريرها حتى اليوم لا تكشف إلا درجة الفساد المطلقة والمواقع النسبية للدول تجاه الدول الأخرى ولا تدخل في التفاصيل الجزئية. إلا أن الفكرة تتسع وتجذب على مر السنين مناصرين جدداً. لقد كشفت تقارير المنظمة عن علاقة طردية بين دولة الحق والقانون وبين تراجع الفساد، بين الدولة التسلطية/ الاستبدادية وبين انتشار الفساد، كما كشفت العلاقة بين الحكم الصالح والرقابة، وبين تراجع الفساد. أنها قاعدة ليست جديدة، ولكن تم إثباتها بشكل عملي، فقد قيل منذ زمن طويل أن"العدل أساس الملك". وتثبت الأرقام العربية في هذا الصدد حقيقة مذهلة، وهي أن حجم الديون العربية تقدر بثلاث مئة بليون دولار، هي بالضبط حجم الرشاوى والفساد المصروفة خارج قنوات التنمية. والتفاصيل كثيرة ومنشورة، بل أن بعض بلداننا أنشأ مؤسسات لمكافحة الفساد والدعوة للشفافية والحفاظ على المال العام. إلا أن الرسالة لم تبلغ الجمهور العربي العام، فلا يزال المال العام عربياً مباحاً للبعض من دون رقيب. إذاً نحن بصدد أكثر التقارير تأثيراً، ربما أكثر من تقرير ميليس على أهميته ومن محاكمة صدام حسين وزمرته على أهميتها، اللذين سيأتي الوقت لتناولهما بشكل جاد. * كاتب كويتي.