هل يتعين وجود المدن في المكان فحسب أم في الوظيفة والروح؟ ولماذا هذا الحنين الذي يساورنا تجاهها؟ وهل أن وعينا السائد بخصوصها، من حيث هي أنسنة وعمران واجتماع، شمولي أم انقسامي؟ الحديث عن المدينة واقعاً ودوراً ومفهوماً هو في الحقيقة حديث عن رؤية متكاملة للحواضر وعن استحضارٍ لوظيفتها في التأسيس لوعي الأفراد والجماعات، واحتضانٍ لتجاربهم الإنسانية، وتأكيدٍ لوجودهم واعترافهم بالآخر المختلف بكينونته وخصوصياته. وإذا كان المكان في الغرب المعاصر لا يسمح بإمكانيات تواصلٍ كبير ذي منحى إنساني، فإن إنساننا في الوطن العربي طوّر سبلاً للتواصل في مدن كبيرة مثل القاهرةوبيروت ودمشق وجدة والرباط... نشأت وتطورت لإرضاء حاجات أبنائها وتطوير حيواتهم حاضراً ومستقبلاً. حواضرنا العربية باتت تمتلك مقومات المدن العصرية إن لجهة الانفتاح والحداثة أم لجهة تبلور سمات الاعتدال والتوسط والتصالح. بيد أن الوعي السائد لدى الجمهور المديني، أو لدى الجمهور تجاه المدينة ودورها الاستقطابي المرتجى، ليس واحداً. فهناك من جهة الوعي الشمولي الذي يضم بين جنباته التاريخ. وهناك من جهة أخرى الوعي الانقسامي الذي يصنّع ويرّوج لثنائياتٍ يقطع بينها التواصل، فيبدو الموروث خصماً للجديد والماضي نقيضاً للحاضر والأصالة عدواً للتجدد! وعلى كلّ حال، فالمناخات التصالحية، والعملية على حدّ سواء، التي تهيمن على البيئات المدنية، تطبع أهلها وساكنيها بهذا الطابع العام وتولّد لديهم اهتمامات ومصالح تتصل بطبيعة معاشهم ونمط اجتماعهم الثقافي. لذا يصحّ القول إنها تترك أيضاً في نفوس زائريها وقاطنيها الأجانب أبلغ الأثر. فهم متى قصدوها للإقامة واستطيبوا رغيد العيش فيها، ينسجون أفضل العلاقات مع أهلها ويتواصلون معهم، كيفما تعددت الأسباب والظروف: مزاولة أعمال أو متابعة دراسات أو أداء مهام دبلوماسية... وفي كل الأحوال تمسي للمدينة في قلوبهم منازل يألفونها ويسكنون إليها. المدينة التي يجري الحديث عنها هي بيروت بالتخصيص. والأجانب الذين سنتطرق إلى ذكرهم ? على سبيل المثال - يتمثلون تحديداً بديبلوماسيين آسيويين لكل منهما قصة مع المدينة ومع كاتب هذه السطور. بيد أن العقد الناظم لجزئي المقالة، أو بالأحرى لبطليها، هو التعبير عن التقدير الواجب للآخر الآسيوي هنا الذي تغيّبه عنك مشاغل الزمان، أو هو يأتيك من عوالم متباعدة. ويقطع عليك مسار انشغالاتك اليومية، ويضعك في مواجهة ظروف مكانية زمانية متميزة وراقية، تعيدك إلى المجال الفكري العام. هنا تتقاطع اهتماماتك العلمية والإنسانية مع آخرين، أندادٍ لك، تباعدك عنهم الألسن وتنأى بهم المسافات، ولكن الأرضية المشتركة الواحدة توفر لك ولأقرانك موطئ قدم في آفاق عوالمهم الرحبة. بطاقتا دعوةٍ فتحتا أمامي المجال لكتابة هذه المقالة. وابدأ بالبطاقة الأولى تلقيتها من السفير الياباني في لبنان السيد توكوميتسو موركامي وعقيلته لحضور العشاء الذي أقاماه في دارتهما في بعبدا، لتكريم سفير اليابان في البحرين. وهو ديبلوماسي ناشط كان يتولى منصب القائم بالأعمال في سفارة اليابان في بيروت بين عامي 1989 ? 1995. العلاقات التي نسجها، ببراعة ديبلوماسية مشهود لها، أوتيت ثمارها لاحقاً. فقد دأب الدبلوماسي الياباني على متابعة الأوضاع اللبنانية منذ العام 1989، للوقوف عن كثب على تفاصيل مشروع إعادة الإعمار الذي شاركت فيه حكومته مشكورة بمبادرة كريمة. وقد قيض لكاتب هذه السطور أن يلتقيه مع انطلاقة ورشة الإعمار، وأن يتابع التنسيق معه لدى عودته إلى بيروت، حيث استأنفت السفارة نشاطها الرسمي في العاصمة اللبنانية. وما يهمني هنا هو تثمين معاني الوفاء الذي حمله الدبلوماسي إن للبنان الذي استضافه قائماً بالأعمال لإمبراطورية الشمس في فترة حرجة من تاريخه، أو لمجموعة أصدقاء رغب في أن يتحلقوا حوله عشية زيارته إلى بيروت التي أحبها وعبّر عن محبته لها من خلال جهوده الحثيثة لإعادة افتتاح السفارة في ربوعها وإعادة إحياء الدور الياباني في أوجهه المتعددة السياسية والإنمائية والثقافية والبيئية. جمع السيد ناتسومي شمل مجموعة من الأصدقاء والزملاء حول مائدة يابانية وذكّرهم أيضاً بأن الوفاء للمدن وللأشخاص سمة إنسانية. وقد أكد عليها من خلال رغبته التي أسرَّها إلينا في قضاء شيخوخته في جبل لبنان. فلعله يرفد بهذه البادرة الجالية اليابانية في بلاد الأرز التي تناقص عددها من 1500 في السبعينات إلى ما يقارب السبعين حالياً. أما الدعوة الثانية، فهي بخصوص لقاء أكاديمي فكري لا يخلو من نكهة إنسانية، دعانا اليه السفير السابق للهند في اليابان، والأستاذ في جامعة كيو Kio تأسست في العام 1858 ومدير مؤسسة Global Security للدراسات، البروفسور أفتاب سيث Aftab SETH. والداعي ذو الثقافة الموسوعية والمتعدد المهام والاهتمامات واللغات، الذي وفد من المقلب الآسيوي الآخر، يأسرك منذ اللحظة الأولى بتواضعه الجمّ وظرفه وحكمته وغزارة معرفته. وما الغرابة في ذلك فهي سمات العلماء الحقيقيين. دعينا للتناقش في مسألة تتمحور حولها أبحاثه وهي"الأمن البشري بمفهومه المعولم"إن في استراتيجياته العامة أو في مختلف وجوهه وميادينه التطبيقية علم السياسة، الاقتصاد، التنظيم المدني، التربية، الثقافة.... وكانت فرصة للتعرف إلينا، وإلى طبيعة مهامنا، ومناسبة للإطلاع على جانب مشرق من الدراسات الآسيوية المعاصرة التي تتعلق بمستقبل البشرية وبأمنها الإستراتيجي، والتي باتت تشغل أكثر فأكثر عقول مفكري دول شرق آسيا، ويرغبون في نقل عدواها إلى جامعات الشرق الأوسط. لم يتوقف النقاش عند استراتيجيات الأمن وتداعيات العولمة فحسب، بل تطرق إلى مواضيع الشرق الأوسط وإلى الصوفية وإلى التقمص، وإلى المعالم السياحية في كلّ من لبنان وسورية. ووصل بطبيعة الحال إلى ثقافة الطعام عندنا وفي بلاد الشمس أيضاً. الجانب الآخر لمضيفنا يتمثل في التقديرات التي نالها مثلما في جملة مؤلفاته، شعراً ونثراً، ومنها كتاب طريف نشره باليابانية في العام 2001 بعنوان"كم يستطيع الفيل أن يخسر من وزنه؟". أما كتابه الأخير الصادر عن جامعة كيو 2005 فهو يتقارب مع سابقه عنواناً ومضموناً:"إذا خسر فيلٌ من وزنه، فهل يبقى فيلاً؟". الكلام على اليابان طغى على الحديث عن الهند، لذا نختم بأن اللغة اليابانية التي بشرنا زميلنا خليل كرم أن عدد طلابها في جامعة القديس يوسف بات يناهز 60 طالباً، باتت مطلباً ملحاً لنا، ولمن يرغب أيضاً في معرفةٍ أدقّ بمضيفنا العزيز، وبخاصة لاكتناه أسرار الفيلة التي باتت تفقد أوزانها في عوالم اليابان وبلغتها! وبيروت التي تعبق بروح المدن المتوسطية ظلت حاضرةً، وأناسها، في وعي هذين الديبلوماسيين الآسيويين الراقيين اللذين نزلا في ربوعها، ومارسا مهامهما في ظروفها الحرجة الهندي بين العامين 1975 - 1976 والياباني بين الأعوام 1989 - 1995. ما غاب لديهما الحنين إلى عاصمة لبنان. لذا، فإن مظاهر الوفاء التي أبدياها للمدينة وللبلد اللذين شهدا فصولاً من حروبه سابقاً، ونهوضه لاحقاً، تجلت بصيغتين متمايزتين: فالدبلوماسي الياباني استعاد عبق الأيام الخوالي وتذكّر زملاء العمل، فتقاسم وإياهم جانباً من جوانب ثقافة مجتمعه، وأعني ثقافَتْي المطبخ والموسيقى اليابانيتين، المتوّجتين بالطبع بثقافة حفظ الود والوفاء للآخر. أما الدبلوماسي والأكاديمي الهندي، المتهافت في عوالم اليابان، فترجم حنينه للبلد الذي شهد تدرجه في عالم الدبلوماسية بمأدبة"فكرية"مازجت بين طلاوة الحديث الدبلوماسي ورقي النقاش العلمي وخصوصية البحث في مسائل الصوفية والتقمص وما إليها... وبين ثقافة الأكل اللبناني وأطايبه. وبين هذا وذاك، تسنّت لنا مجدداً فرصة عقد حوارٍ راقٍ تداخلت فيه اللغات والأفكار والرؤى. فعسى أن يكون المحضران، العابقان بمعالم العمران والأنسنة والاجتماع، على تنوعهما وتباعدهما الزمني، قد أسهما في شكلٍ أو آخر في التأكيد على الدور العربي عموماً، والمديني تحديداً، في ترسيخ ثقافة الحوار المتفتح على الآفاق. وبكلمة، فالدعوتان الكريمتان اللتان توسلناهما للإطلالة على معلم من معالم المشهد الثقافي أفسحتا في المجال أمامنا وأمام ممثلين لضفتي القارة الآسيوية في الالتقاء على شاطئ المتوسط للتعبير، كلّ بأسلوبه، عن الشوق لاستعادة ذكريات المدن والتوق لحطّ الرحال مجدداًَ في بيئات مستقطبة عرف أهلوها بمهارتهم في نسج علاقات الود والعمل والتواصل مع الآخر المختلف والذي يأتلف في نهاية المطاف ليلحم سدى الثوب الإنساني الواحد. * كاتب لبناني.