بحلول هذا العام 2005 تكون قد مضت مئة سنة على كتاب نجيب العازوري"يقظة الأمة العربية في الأقاليم الآسيوية"الذي صدر باللغة الفرنسية عام 1905 في باريس. ومع ان هذا الكتاب يرتدي اهمية استثنائية في الفكر العربي الحديث، كونه حمل افكاراً رائدة في الوحدة العربية والعلمانية والاستقلال، وبصورة متميزة ولافتة، في التنبيه الى الخطر الصهيوني على الأمة العربية والسلام العالمي، إلا انه ومؤلفه لم يحظيا بما يستحقانه من الاهتمام حتى اواخر القرن الماضي، حيث عرّب احمد ابو محلم الكتاب عام 1978 موضحاً بعض الالتباس حول شخص العازوري وحياته ومؤلفاته. احاط الالتباس بنجيب العازوري اسماً وتاريخاً ومؤلفات. فقد خلط بعض الباحثين بين نجيب جرجس العازوري وبين نجيب يوسف العازوري الذي اصدر في الأوروغواي نشرة"امنية العرب"سنة 1913 باللغة العربية متوجهاً فيها الى العرب قاطبة، رافضاً في دعوته القومية الارتباط بأي دولة غربية، محرضاً على الاستعمار بأشكاله وصوره كافة. وقد بيّن احمد ابو محلم في مقدمة الترجمة العربية ل"يقظة الأمة العربية"ان مؤلف الكتاب هو نجيب جرجس حنا العازوري وليس نجيب يوسف العازوري، وأن الشخصين وإن اتفقا في الاسم إلا انهما مختلفان في وجهة هجرتهما، وفي تعبيرهما، وفي توجههما القومي ودوافعهما، وفي مسارهما الفكري والإيديولوجي. وقد احاط الالتباس ايضاً بسنة ولادة العازوري، ففي تقدير احمد ابو ملحم ان نجيب جرجس العازوري ولد على وجه التقريب سنة 1878 . اما ستيفان ويلد في"الحياة الفكرية في المشرق العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997"فيرى ان نجيب جرجس العازوري شخصية مهملة في تاريخ الفكر القومي العربي، وأن هذا الرجل بقي في الظل حتى لم يكن من الممكن التحقق من تاريخ ولادته، وهو ربما سنة 1870 في بلدة عازور في جنوبلبنان. ويطاول الالتباس مؤلفات العازوري، ففي حين يذكر انه وضع كتاباً بعنوان"الخطر الصهيوني العالمي"وتذكر مصادر اخرى ان للعازوري مؤلفات عدة، لا يوجد من هذه المؤلفات سوى"يقظة الأمة العربية"ولم يفلح البحث الدؤوب الذي قام به الباحث جان دايه في العثور إلا على بعض المقالات التي كتبها العازوري في جريدة"الإخلاص"و"المقطم"في القاهرة، مما جعله يستنتج ان كتاب"الخطر الصهيوني العالمي"الذي اشار إليه العازوري لم يُنشر. تعلم العازوري في مدرسة الفرير في بيروت، ونال الديبلوم من المدرسة العليا الفرنسية ولمّا يبلغ العشرين من العمر. عُيّن مساعداً لحاكم القدس كاظم بك 1898 - 1904، واعتزل منصبه وغادر فلسطين الى القاهرة ثم الى باريس حيث وصلها نهاية عام 1904 . وسنة 1905 نشر بالفرنسية كتابه"يقظة الأمة العربية". وهناك اسس"جامعة الوطن العربي"وأصدر مجلة"الاستقلال العربي"عام 1907 بغية تحرير الأمة العربية من الأتراك. لكن حملة العازوري القومية، وإن تكن قد لقيت بعض الاهتمام في اوروبا، كان اثرها في الحركة العربية ضئيلاً، ويعود ذلك على ما رأى جورج انطونيوس في"يقظة العرب"الى انها ظهرت في عاصمة اجنبية وبلغة اجنبية، ما ادى الى شلّها. حملت صفحة الغلاف من كتاب عازوري شعار"بلاد العرب للعرب"اما فكرته الرئيسة فهي إدانة الحكم التركي في البلاد العربية، باعتباره حكماً بربرياً وظالماً. فالحكومة التركية هي عصابة قطاع طرق يقودها مجرم يعمل على تخريب بلاد العرب ويضطهد المسيحيين والمسلمين على السواء، بفرض الضرائب الظالمة وبالرشى والتزوير والسرقات المنظمة، ما أفقر العرب وخرّب ديارهم. اما الموظفون الأتراك فيختارون من بين جهلة الناس، انهم وقحون مع الشعب أذلاء جبناء امام رؤسائهم، دأبهم استغلال الشعب وملء الجيوب. وهكذا لا أمن ولا سلام ولا عدالة مع الأتراك، حيث يتحكم الأقوياء بالضعفاء والموظفون بالحياة والشرف والمنافع العامة جميعها في كل لحظة. بسبب هذا النظام المتخلف والجائر أقفرت فلسطين وهجرها اهلها بعد ان كانت عامرة خصبة غنية بمنتوجاتها الزراعية، مع انها تتمتع بمناخ متنوع ومعتدل وبمشاهد طبيعية خلابة، اضافة الى مقدسات مختلف الديانات الموحدة والذكريات التاريخية المودوعة فيها. ولهذا كله اضمر العرب الذين لم يجنوا سوى الشقاء تحت حكم الأتراك، الكراهية والاحتقار للشعب التركي. ومع ان العازوري يتوجه اساساً الى إدانة الاستبداد العثماني المتخلف والعمل على توحيد العرب واستقلالهم عن الأتراك، إلا انه ينبّه، وللمرة الأولى في الفكر العربي الحديث، على ما يرى ألبرت حوراني في"الفكر العربي في عصر النهضة"الى الخطر الصهيوني ومطامع اليهود في فلسطين وأثرها على السلام العالمي بأسره. يقول عازوري في مقدمة كتابه في ما يشبه النبوءة ما سيؤول إليه الصراع العربي - الصهيوني، قبل وعد بلفور باثنتي عشرة سنة وقبل قيام دولة اسرائيل بما يقرب من نصف قرن:"ظاهرتين مهمتين، متشابهتي الطبيعة بيد انهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه احد حتى الآن تتضحان في هذه الآونة في تركيا الآسيوية اعني: يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة اسرائيل القديمة على نطاق واسع. انه مكتوب لهاتين الحركتين ان تتصارعا باستمرار حتى تتغلّب احداهما على الاخرى. وعلى النتيجة النهائية لهذا الصراع يتوقف مصير العالم أجمع. ورأى العازوري ان الذين عالجوا المسألة اليهودية، لم يأخذوا في الاعتبار بما فيه الكفاية ما ينتج منها من تهديد للسلام العالمي، وانه قصد ملء هذه الفجوة كي يكشف للعالم اهمية الحركة العربية والخطر الذي تعرض له، وهو خطر يتعاظم الخوف منه لأنه يهيَّأ في الظل وفي السر. ان العرب هم اذاً كما يتضح من خلال"يقظة الأمة العربية"ازاء مواجهة تاريخية مزدوجة: من جهة مواجهة الاحتلال التركي الذي أفقر الأمة العربية ومنعها من التقدم والعطاء، وكان ابمكانها لولاه ان تكون على قمة الحضارة العالمية بما اسرته للانسانية من اكتشافات وعمران وترجمات وإسهام في تطور العلوم، اضافة الى اتصاف العرب بالشجاعة والحلم وتشجيعهم للعلوم والفنون حيثما حلوا، ما اختصر لأوروبا ليل العصور الوسطى الطويل. ومن جهة اخرى مواجهة الخطر الصهيوني الداهم الذي يضع القومية العربية ومصير العرب على المحك. في هذا الاطار عمل العازوري على فضح نيات الصهاينة ومخططاتهم، فحذَّر مما يضمره هؤلاء من مشاريع للسيطرة على فلسطين، التي يريدون اعادة بنائها اكثر اتساعاً من التي امتلكوها في مختلف مراحل وجودهم التاريخي. انهم لم يستطيعوا عبر تاريخهم احتلال الحدود الطبيعية للبلاد كي يصدوا الغزاة والفاتحين، ولم يتمكنوا من استعباد مختلف الأمم التي كانت تقطن فلسطين او استيعابها والعيش معها بسلام، وقد كان هؤلاء على قدم المساواة مع اليهود في الحضارة، وكل واحد من هذه الشعوب أخضعهم بدوره الى سيطرته. ولو تمكن اليهود من احتواء كل الاقوام الكنعانية لكانوا اوجدوا مملكة مستقلة ولمنعوا بزوغ فجر المسيحية. إلا ان يهود عصرنا قد ادركوا اخطاء اجدادهم، لذلك يسعون الى احتلال التخوم الطبيعية للبلاد التي هي بالنسبة اليهم جبل حرمون ووادي الليطاني في الشمال، اضافة الى المنطقة الواقعة بين راشيا وصيدا كطليعة حراسة، وقناة السويس وشبه جزيرة سيناء في الجنوب، والصحراء العربية في الشرق، والبحر المتوسط في الغرب. ان اسرائيل اذ ذاك تغدو قلعة حصينة في وجه اعدائها. ازاء هذه المخططات المرسومة التي يعمل لها اليهود بدأب واتحاد وتصميم وجهد موجه بفكرة موحدة، تقبع الادارة التركية المتخلفة فيما العرب يعانون الشقاق والجهل والبؤس وعدم الانتظام، وبينما قناصل الدول الاوروبية غافلون عن خطط اليهود وتنظيمهم وغزوهم لفلسطين. على هذه الخلفية تتحدد نظرية العازوري القومية العربية التي تتطلع الى اقامة امبراطورية عربية تمتد من الفرات ودجله الى خليج السويس، ومن المتوسط حتى بحر عمان. ومن اجل مصلحة الاسلام والأمة العربية على السواء، يجب فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية ومساواة المواطنين امام القانون، وان تتخذ الحكومة العربية شكل السلطنة الدستورية المرتكزة على الحرية لكل المذاهب، والتي يجب ان تحترم مصالح اوروبا والامتيازات الممنوحة لها، وان تحترم ايضاً الحكم الذاتي في لبنان، واستقلال امارات اليمن ونجد والعراق. ويجب ان يكون خليفة المسلمين شريفاً متحدراً من الرسول، يرأس دولة مستقلة تشمل ولاية الحجاز ومنطقة المدينةالمنورة حتى العقبة، حيث يمارس سلطاته الدينية والدنيوية على السواء، وفي الوقت نفسه يتمتع باحترام ملكي ويملك سلطة روحية فعلية على مسلمي الارض كافة. ومن اجل تحقيق هذه الامبراطورية، نظر العازوري في مواقف مختلف الدول، ليخلص الى ان للروس مطامع في فلسطين مهد المسيح ويجب التصدي لهم، لا لأنهم أسوأ من الأتراك بل لأنهم اقوى وأخطر. والانكليز حظرون ايضاً لأنهم يسهمون في الابقاء على الاوضاع المتخلفة في الامبراطورية العثمانية. في مقابل ذلك يعقد العازوري الآمال على فرنسا مشعل الحرية والحضارة، الاسطع اشعاعاً الى جانب كونها حامية المقهورين، وقد احترمت القوميات وقدمت المساعدات العسكرية والديبلوماسية والمالية للشعوب المستعبدة وأعافتها على الاستقلال، وبفضلها بتنا نجد بيننا اناساً مثقفين واعين، وبتنا نعي قوميتنا. وألمانيا وأميركا يمكن ان تدعما استقلال العرب من باب التعاطف والاحسان الى المضطهدين والبؤساء. اما سياسة الكرسي الرسولي فتتحمل مسؤولية الانقسامات المذهبية ونشوء الكنائس المنشقة. ولهذا طرح العازوري احلال مذهب كاثوليكي قومي عربي يجمع كل الكنائس وتتلى بموجبه الصلوات كلها بالعربية. على اساس هذه المبادئ والتصورات سعى العازوري لتحقيق استقلال الأمة العربية الموحدة التي نادى بها في إطار اوروبي. ولم يقف عند حد تأليب الرأي الغربي سياسياً، بل حاول الحصول من فرنسا وايطاليا وبريطانيا على المال والسلاح من أجل اثارة التمردات في الامبراطورية العثمانية. ومهما يكن من أمر، ان نشر العازوري كتابه في فرنسا، الى جانب اسباب اخرى، انما يهدف في الدرجة الاولى الى اقحام الفرنسيين في مقاومة السلطة العثمانية، وقد قرئ الكتاب بالفعل وبإمعان في الاوساط الفرنسية، وكان موضع اهتمام كبير من الحركة الصهيونية. وكائناً ما كانت المواقف السلبية من كتاب العازوري واتهام البعض له بالعمل في اطار تيارات خفية هدفها مصلحة الدول الغربية التي كانت تهيئ لاتفاقية سايكس بيكو، يبقى الكتاب الذي عرّى اسس الاستبداد العثماني المتخلف، بصورة تتفق في كثير من ملامحها مع تلك الواردة في"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"للكواكبي، واحداً من الكتب الطليعية في تاريخ الفكر العربي الحديث، في الرجوع اليه واستعادة مضمونه والتأمل في تنبيهاته، مغزى كبير مع تحول الصراع العربي - الصهيوني الى خطر جدي على مستقبل الأمة العربية القومي وعلى السلام العالمي بأسره. كاتب لبناني.