إعتدنا في السياسات العربية الرسمية وغير الرسمية ان نواصل معاقبة الضحية وتحميلها مسؤوليتها الذاتية والمسؤولية الخاصة بجلادها. وهذا ينطبق اكثر ما ينطبق على ثلاث فئات: اللاجئين الفلسطينيين الذين نزحوا في 1948 الى الدول العربية المحيطة، وشيعة العراق وكرده. في وضع اللاجئين الفلسطينيين نجد انهم حُشروا في مخيمات مُنعوا من مغادرتها، والحجة الظاهرة ابقاء القضية الفلسطينية حاضرة او حية، والحجة المستترة ان العقلية السياسية العربية السائدة إنما تحمّل الفلسطيني مسؤولية نزوحه عن دياره امام سطوة عدوٍ لم تنجح الدول العربية مجتمعة آنذاك، في التصدي له. وفي مرحلة لاحقة تحول اللاجيء الى هاجس أمني تحمّله الحكومات العربية مسؤولية كل خلل امني يظهر في هذا البلد او ذاك. واستمر اللاجئون يخضعون لرقابة مشددة في معظم الدول العربية، بل ان بعضها كان يمنع عن الفلسطيني حق الدخول الى هذا البلد او ذاك حتى لو كانت معه كل الوثائق القانونية المطلوبة. ومع ظهور منظمات العمل الفدائي، أصبح الفلسطيني ضحية كل خلاف بين هذه المنظمات واي حكم عربي. والغريب ان هذه السياسة كانت اكثر تشدداً حتى من تلك التي تتبعها اسرائيل ضد المواطنين العرب الذين ظلوا في ديارهم المحتلة عام 1948. وأكراد العراق كانوا دائما موضع شبهة وتهمة، ليس من قبل الحاكم في بغداد وحده بل من معظم الحكام العرب، باستثناء قلة حكمتها علاقات صراع مع بغداد والنظام المهيمن فيها. وكان ذلك على عكس ماهو عليه الوضع مع اكراد ايران وتركيا الذين كانوا يلقون دعم دول عربية عدة. واذا وصلنا الى وضع شيعة العراق نجد انهم ظلوا لعقود طويلة ضحايا لاضطهاد مركّب. فهم ضحايا تمييز شائع ضد الشيعة بشكل عام في البيئة المختلفة عنهم مذهبياً سواء في البلاد العربية ام في الدول غير العربية الدولة العثمانية مثلاً، ولا يغير من الصورة كثيراً ان سنة ايران يتعرضون لمثل هذا التمييز ضدهم من الاكثرية المختلفة عنهم مذهبياً والتي يعيشون بينها. والواقع انه في الصراعات العثمانية - الصفوية وبعدها العثمانية - القاجارية وفي ما بعد الايرانية - العراقية، كان شيعة العراق دائما الضحايا المباشرين وغير المباشرين. وعندما وصلنا الى سنوات الحرب العراقية - الايرانية 1980 1988 كان الشيعة العراقيون ضحية مزدوجة لشيعيتهم في العراق إذ عوملوا على انهم طابور خامس يتحرك بإمرة ايران وكانوا موضع اجراءات تعسفية نتيجة التشكيك بولائهم الوطني. وفي ايران، كانوا ضحية عراقيتهم التي استمروا في التمسك بها هوية لهم. وبعد غزو النظام السابق للكويت، لم يكن للشيعة العراقيين حظ في الاتجاهين، اي الغزو ودحره، الا الحاق الأذى بهم والمزيد من الخسائر والاضطهاد، ويكفي ما تركه تاريخ هذه الفترة من مقابر جماعية شاهداً على ذلك. وعند الغزو الاميركي للعراق، كان الشيعة العراقيون موضع مساومات اقليمية ودولية غير متناهية، والكل كان يعمل كي لا يمسك هؤلاء زمامهم بأيديهم في الاتجاهين: تغيير النظام وانهاء الاحتلال. ويكفي شاهداً على ذلك ما تعرضت له قياداتهم من اغتيالات أطاحت أهم شخصيتين كان يُعتد بدورهما على الصعيد الاقليمي والدولي وبقدراتهما على تقوية اللحمة الداخلية عربياً وكردياً وتركمانياً، وهما عبد المجيد الخوئي ومحمد باقر الحكيم اللذان كانت تربطهما علاقات وثيقة بالقيادات العراقية الدينية والعلمانية، وذلك ضمن أواصر وثيقة تعود الى زمن والديهما محسن الحكيم وابو القاسم الخوئي، وكانا أهم مرجعين في العراق في النصف الاخير من القرن الماضي. وتواصلت الضغوط على الشيعة بعد سقوط النظام بهدف فرض أحد أمرين: إما إعلان المقاومة المسلحة للاحتلال او الدخول في صفقة مع المحتل. فماذا يفعل الذي لا يرى في الأمرين الحل المقبول؟ لقد صمدت المرجعية الشيعية الممثلة بالسيستاني في رفض الحلين وفي محاولة شق خط ثالث. وكانت الانتخابات وتعزيز دور الاممالمتحدة عماد هذه الأطروحة الثالثة اذا صح التعبير. مع ذلك، لم يستطع شيعة العراق سد منافذ التحريض ضدهم كجماعة مذهبية، وكذلك الاكراد كجماعة اثنية. وكلما احتدم الصراع في المنطقة حاول احد اطرافه ان يستحضر العامل المذهبي او القومي سلاحاً في وجه الآخر. والطريف انه في حال الشيعة والكرد، كما في حال اللاجئين الفلسطينيين، لا يتوقف الحيف اللاحق بهم حتى بعد سقوط مسبباته. فقد يدخل نظام عربي في مصالحة مع اسرائيل تارة ومع القيادة الفلسطينة تارة اخرى، لكنه يواصل سياسات التمييز ضد اللاجئين ومخيماتهم في بلده. كذلك قد يدخل الحاكم العربي او الطرف الدولي في تسوية مع ايران او مع الحكم في بغداد، لكن اجراءاته التمييزية ضد الشيعة والكرد لا تتوقف. إننا في مرحلة شاعت فيها مصطلحات المثلث السني والهلال الشيعي وربما الشمس الكردية والمربع الدرزي والدائرة العلوية، ما يؤكد ان لغة التحريض الابرز ما زالت في بلادنا لغة غرائزية. فالموقف من الحكم السوري، في بعض الاوساط اللبنانية، يتحول الى موقف من العمال السوريين الذين ارتفع على أكتافهم أكثر أبنية بيروت ومناراتها. والموقف من قيادة ياسر عرفات كان يتحول الى موقف عنصري ضد الفلسطينيين بمخيماتهم، هم الذين عاشوا عقوداً في لبنان لم يردوا على الجور الا بتقبل دور الضحية، التي هي براء من كل ما يتم باسمها. وفي المقلب الآخر من العالم العربي تحضر الامازيغية والافريقية، ما لا يخفف من"ذنوبهما"كون الاسلام والمذهب جامعاً مشتركاً، وكون هذه الأعراق هي المكوّن للأكثريات السكانية لشمال افريقيا والسودان. وبعد ذلك نسأل عن التدخل الخارجي وأسبابه وأبوابه. ان اهم بابين لمثل هذا التدخل يتمثلان في الاستبداد وغياب دولة المؤسسات والقانون من جهة، وفي التمييز المذهبي والإثني من جهة ثانية. وعندما نقول ذلك سيظهر من يصرخ ان هذا مُبالغ فيه ولا ينطبق على واقعنا العربي الاسلامي. لكن هذا الصارخ لو كان منصفاً، وتأمل حوله، لوجد نفسه يسبح في محيط من الاستبداد والتمييزات المذهبية والاثنية. فلنجفف منابع الاستبداد ولنقفل منافذ التمييز، واذا لم يكن بامكاننا منع التدخلات الخارجية، بتنا، على الأقل، أقدر على احتواء آثارها السلبية ومنع مفاعيلها البعيدة المدى. والا، فإذا واصلنا سياسة جلد الضحية ظللنا اكثر قابلية لأن نبقى ضحايا.